إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

ملامح دولة الايمان بين الوجود الاسلامي والدولة الدينية

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ملامح دولة الايمان بين الوجود الاسلامي والدولة الدينية



    ملامح دولة الايمان
    بين الوجود الاسلامي والدولة الدينية
    نبيل الكرخي

    المحتويات

    المقدمة
    المحور الاول: هل هناك تلازم بين وجود الاسلام ووجود الدولة الدينية؟
    دولة الانبياء والاوصياء (عليهم السلام)
    الدولة الدينية في عصر الغيبة الكبرى

    المحور الثاني: هل الدولة الدينية جزء أصيل في العقيدة والفقه الشيعي الإمامي؟
    تطور العلاقة مع السلطة في زمن الغيبة الكبرى
    موقف منظمة الحجتية
    بعضاً من روايات المنع من قيام دولة دينية
    الفقه الشيعي والحاكم المستبدّ
    اربعة انعطافات مهمة في الموروث الشيعي
    دور فقهاء الشيعة في ظل غياب السلطة
    صلاحيات الفقيه للنهوض بالحاكمية الدينية
    الحسبة في الفقه الشيعي
    ولاية الفقيه العامة وموقف فقهاء الشيعة منها
    ولاية الفقيه المطلقة العقائدية
    اطلاق تسميه (الامام) على الولي الفقيه
    من شبهات "ولاية الفقيه العقائدية"
    تسقيط المنتقدين لولاية الفقيه العقائدية
    ضابطة ترسيخ الوجود الاسلامي في دستور دولة دينية
    معالم ترسيخ وجود الاسلام في تحرك السيد الصدر
    الفصل بين الدولة وسيادة الاسلام
    بين النظرية والتطبيق
    الامـة مصــدر القـــوة
    مشكلة الخلافة من السقيفة حتى اتاتورك
    حريق الاقصى والنهضة الاسلامية العالمية

    المحور الثالث: هل الدولة الشيعية نافعة؟!
    التقية والدولة الشيعية
    الانتشار الطوعي للتشيّع وعقبة الدولة الشيعية
    المصادر
    بسم الله الرحمن الرحيم

    المقدمـة:
    انزل الله سبحانه وتعالى الاسلام ليقوده إمام معصوم.
    هذه الحقيقة حاولت العديد من الآيديولوجيات المنحرفة عن الاسلام او سيئة الفهم للاسلام طمسها، فظهرت خلافة السقيفة ومن ثم الخلافة الوراثية متمثلة بدول بني امية وبني العباس وآل عثمان، ودولة الوراثة الممتنعة عن الخلافة لأسباب فقهية، كدولة آل سعود الذين لن يتمكنوا ان يعلنوا انفسهم خلفاء لكونهم غير قرشيين بحسب الفقه الحنبلي وفرعه الفقه السلفي الوهابي! كما ظهرت سلطات تحكم الدول الاسلامية كسلطة البويهيين وسلطة السلاجقة وسلطة الايوبيين.
    وظهرت في عصرنا الحاضر سلطة ولاية الفقيه العقائدية التي اعطت للفقيه نفس وظيفة الامام المعصوم (صلوات الله عليه) بعدما كانت ولاية الفقيه في العقود التي سبقتها تختص بسلطة روحية أو معنوية يمدها الفقيه لتظلل على جميع المؤمنين بولايته الروحية المعنوية والتي تستثمرها الامة في واقعها لترسيخ الوجود الاسلامي في المجتمع والدولة والحياة!
    فأما حتمية قيادة الإمام المعصوم (عليه السلام) للاسلام فظاهرة من خلال تنصيب الله تبارك وتعالى وصياً للنبي، بلسان النبي (صلى الله عليه وآله) يوم الغدير ،،، وقوله مخاطباً نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله): ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين))، فحصر سبحانه تبليغ الاسلام ، كل الاسلام، بتنصيب الوصي المعصوم الذي يقود الاسلام بعد نبيه العظيم (صلى الله عليه وآله). وبهذا الاعلان اكتمل الدين واتم سبحانه النعمة ورضي الاسلام ديناً للعالمين. وبذلك تشكّل الاسلام بصيغته النهائية: دولة يقودها معصوم تسود فيها شريعة رب العباد ،،، دولة شرعية إلهية ومجتمع إيماني قائم على اسس اخلاقية فاضلة حيث يسود الاسلام: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)).
    وقيادة المعصوم (عليه السلام) للاسلام أبدية لا تنفك عنه، ولا تتعارض مع حدوث الغيبة الكبرى، فقد وضع المعصوم (عليه السلام) الاسس التي تسير عليها الامة في ظل الغيبة الكبرى. فتعاضدت الامة مع فقهائها، للسير في طريق الحق ونشره بين الامم. وتولى الفقهاء مهمتين الاولى هي قيادة المذهب والحفاظ عليه، والثانية هي قيادة الامة والحفاظ عليها. مهمتان نظرية وعملية، ما اصعبهما لولا توفيق الله سبحانه وتعالى، فانتشر التشيّع في اقاصي الارض، وفي مختلف البلدان.
    لقد اختلفت التحديات التي واجهها الشيعة الامامية عبر العصور، فبعدما كانت التحديات في القرون الاولى مقتصرة على اثبات حقانية مذهب ائمة آل البيت الهداة الاثني عشر (عليهم السلام) وإستحقاقهم الإلهي، والدفاع عن المذهب وجوداً وعقيدة، ورعاية الشيعة والحفاظ على اعراضهم وارواحهم واموالهم التي كانت تتعرض للانتهاك بين الحين والآخر من قبل طواغيت عصرهم المتسلطين على مختلف البلدان الاسلامية. ظهرت تحديات أخرى بعد غزو القوى الاستعمارية الكافرة لبلاد المسلمين وفرضهم انظمة علمانية عليها تسعى لطمس معالم معالم الدين في الحياة اليومية للفرد والمجتمع والدولة، فكان التحدي الجديد الذي واجهه علماء الشيعة الامامية هو مجابهة السلطات الجائرة العلمانية واجبارها على احترام الوجود الاسلامي وسيادته للحياة. ولم يكن الواقع الشيعي بعيد عن التأثر بالحركات الاسلامية السنية التي كانت تعيش مأساة يتم الخلافة، وكان ابرز ايتام الخلافة هم جماعة الاخوان المسلمين الذين اسسهم حسن البنا سنة 1928م كرد فعل على الغاء مصطفى كمال اتاتورك الخلافة الاسلامية العثمانية سنة 1924م. فظهرت بين الشيعة حركات تأثرت بجماعة حسن البنا وابتدأت هي الاخرى تفكر بتأسيس دولة اسلامية شيعية في البلدان ذات الغالبية الشيعية ابتداءاً من سنة 1940 على يد منظمة الشباب المسلم ومؤسسها الشيخ عز الدين الجزائري ! رغم ان تلك الحركات الشيعية لم تكن مدعومة ولا مرغوبة من قبل المرجعيات الدينية الشيعية، حيث إنَّ هناك إجماعاً عند الشيعة الامامية في مختلف العصور على عدم جواز إقامة دولة دينية شيعية، وأن كل راية ترفع قبل قيام القائم (عجّل الله فرجه الشريف) هي راية ضلال. ألا ان بعض الفقهاء المتأخرين قدموا فهماً جديداً لتلك الروايات، واجازوا من خلال فهمهم الجديد إقامة دولة دينية مستندة لولاية الفقيه المطلقة التي تشكل عندهم جزءاً من العقيدة الدينية. وفي خضم الاختلافات بين الفقهاء حول صلاحياتهم هل تقتصر على الحسبة ام تتجاوزها لولاية للفقيه بسعة اختلفوا حولها ايضاً، كما اختلفوا في حدود الحسبة أيضاً، واعتبروا كل ذلك خلافات فقهية طبيعية، كما هي فعلاً. غير انهم في خضم اختلافاتهم المذكورة اتفقوا على امر مهم وهو ضرورة إدامة الوجود الاسلامي وسيادته في الدولة والمجتمع أي إدامة قيادة الاسلام للحياة. ولم يتبلور الصراع الحقيقي بين الفقهاء والسلطات الحاكمة حول وجود الاسلام وسيادته الا في العصور المتأخرة حينما تأسست دول في بلاد المسلمين ذات صبغة علمانية تسعى لطمس معالم الاسلام في الدولة والمجتمع. وقبل ذلك كانت الدول التي تحكم بلاد المسلمين تصطبغ بصبغة دينية اسلامية، وتستند للدين في محاولة لإضفاء الشرعية الدينية على سلطانها. فبعضها كانت تدعي الخلافة كالأمويين والعباسيين والعثمانيين، وبعضها كانت إذا لم تستطع ادعاء الخلافة لكون السلطان غير قرشي والمذهب السائد غير حنفي، كسلطان المماليك في مصر وآل سعود في شبه الجزيرة العربية على سبيل المثال مثلاً، فإنهم يتصدون لإقرار وترسيخ السيادة الاسلامية والحفاظ عليها لكي يضفوا نوعاً من الشرعية على سلطانهم بإعتبارهم حماة الدين والذائدين عنه. كما حدث في عصر المملوك قطز والظاهر بيبرس الذي لم يكتفِ بذلك بل سعى لتنصيب خليفة عباسي جديد في القاهرة بعد سقوط آخر خليفة عباسي في بغداد صريعا بسوء أفعاله على يد هولاكو !
    إنَّ مصطلح (الدولة الدينية) يختلف بحسب الآيديولوجية التي تتناوله. فالدولة الدينية تكون إلهية إذا كان يقودها المعصوم (عليه السلام). والدولة الدينية عند البعض هي تلك التي يقودها الخليفة الغاصب للسلطة او الوارث لمن غصبها إلخ كما هو حال دولة الخلافة الاموية والعباسية والعثمانية. والدولة الدينية قد تكون قائمة بأمر الفقيه أو بقيادة الفقيه. وهناك من العلمانيين من يطلقون تسمية الدولة الدينية على كل دولة تتبنى ان يكون الاسلام دين الدولة وتطبق هذا الامر بصورة فعلية، أي يطلقونها على كل دولة تتبنى وجوداً للاسلام بنسبةٍ ما! فالعلمانيون لا يرضون بأي دولة تحمل طابعاً اسلامياً وانما ينادون بالدولة المدنية التي تكون ممسوخة ومسلوخة عن الاسلام ! إنَّهم يسعون لإيجاد مجتمع خالي من الدين او بعيد عن الدين او دولة مسلوخة الدين كما هو حال دولة اتاتورك التركية، وهذا يعني انهم يريدون بالمجتمع ان يسير بخلاف طبيعته وبخلاف فطرته التي فطره الله عليها. وكلنا نشهد اليوم كيف دق اردوغان المسمار الاخير في نعش دولة اتاتورك بتغييره النظام السياسي في تركيا الى النظام الرئاسي، ولم يكن اردوغان يتمكن من ذلك لولا الثقافة الدينية التي يمتلكها غالبية ابناء الشعب التركي المسلم رغم العقود الطويلة التي تعرض لها بفعل السياسة الاتاتوركية التي سعت لمسخ شخصيته الدينية ! فلولا رغبة غالبية الشعب التركي المسلم بترسيخ السيادة الاسلامية في الدولة والمجتمع لما تمكّن اردوغان من عمل شيء. وهذا نموذج لأهمية دور الامة في ترسيخ الوجود الاسلامي في المجتمع والدولة.
    وينبغي ان ننبّه إننا في مقالنا هذا لا نريد ان نبين حكماً شرعياً فيما يخص إقامة الدولة الدينية فهذا من شؤون الفقيه، إنما نتناول الموضوع تناولاً ثقافياً وتأريخياً وإجتماعياً محاولين الاجابة عن بعض الاسئلة الفكرية التي تراود أذهان بعض المؤمنين من هذه النواحي.
    إنَّ حديثنا عن الوجود الاسلامي وسيادته للتعبير عن سعي الامة لتطبيق احكام الاسلام في حياتها بإعتباره الدين الذي تؤمن به، معناه أو مؤداه هو نفس معنى أو مؤدّى (الحاكمية) التي تحدث عنها ابو الاعلى المودودي وسيد قطب عند أهل السنة، ولكن يضاف له معنى يتضمن دور الامة أو جمهور المسلمين والمؤمنين في تطبيق شريعتهم في مجتمعهم وتجارتهم ومحاكمهم ومعاملاتهم الماليّة واقتصادهم ودولتهم نتيجة تلاحم الاسلام مع شخصيتهم المعنوية، حيث لا يرون فصلاً بين الشريعة الاسلامية واعرافهم وقيمهم الاجتماعية. فمعنى سيادة الاسلام لا يتضمن فقط الحاكمية التي تطالبها الحركات الاسلامية من خلال تأسيس دولة دينية، بل يتضمن عفوية وتلقائية مطالب الناس والفقهاء والمرجعيات الدينية بتطبيق الاسلام في كل نواحي الحياة بعد ان يندمج الاسلام في شخصيتهم وفكرهم وطموحهم. وبإختصار فإنَّ معنى سيادة الاسلام هو ما يحدث عندما يقود الاسلام الحياة، ولكننا في خضم التحديات والفتن العظيمة التي يواجهها المسلمون في عصرنا الحاضر لا نريد ان تكون قيادة الاسلام للحياة وكأنها قيادة فرض أو إجبار، بل نريد من الاسلام ان يسود الحياة وان ينقاد ابناءه طواعية له. فالاسلام يقود الحياة حينما يسود فيها.
    فالاسئلة المهمة التي نحاول الاجابة عنها في بحثنا هذا نذكرها عبر ثلاثة محاور:
    المحور الاول: هل هناك تلازم بين وجود الاسلام ووجود الدولة الدينية؟
    المحور الثاني: هل الدولة الدينية جزء أصيل في العقيدة والفقه الشيعي الإمامي؟
    المحور الثالث: هل الدولة الشيعية نافعة؟!



    المحور الاول
    هل هناك تلازم بين وجود الاسلام ووجود الدولة الدينية؟

    الظاهر ان هناك تلازماً بين وجود الاسلام وسيادته وبين وجود دولة دينية شرط أن يقودها المعصوم (صلوات الله عليه). اما في عصر الغيبة الكبرى، فلا يمكن توفير الشرط الاساسي لقيام دولة دينية وهو غياب المعصوم ( عليه السلام). وهنا نعني بالدولة الدينية الدولة الشرعية الإلهية. نعم قد تقوم في عصر الغيبة الكبرى دولة دينية بمعنى ان تطبق الدولة الشريعة الاسلامية ويكون الاسلام مصدر التشريع الوحيد فيها بحسب دستورها. وهذه الدولة قد تقوم على واجب وتكليف الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو على أساس ولاية الفقيه العامة او المطلقة، أو الحسبة، وكذلك يمكن ان تقوم على أساس ديمقراطي من خلال قناعة غالبية أبناء الامة بضرورة أن يكون الاسلام مصدر التشريع الوحيد في دستور دولتهم وللقوانين التي تشرّعها.

    دولة الانبياء والاوصياء (عليهم السلام):
    إنَّ سعي المؤمن لتحكيم شرع الله سبحانه وتعالى في زوايا الحياة جميعها، هو امر أصيل في الشخصية المؤمنة ومبانيها الفكرية، تنطق بذلك آيات القرآن الكريم والروايات الشريفة.
    أما بخصوص وجود الاسلام وسيادته والدولة الدينية، فهناك تلازمٌ أكيد بينهما في عصر حضور المعصوم (عليه السلام)، وهذا التلازم مرتبط بالجانب العقائدي الديني، حيث ان الانبياء (عليهم السلام) هم اول من اسسوا الدول كما يذهب الى ذلك السيد محمد باقر الصدر في كتيبه (لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران)، حيث يقول:
    (إن الدولة ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان. وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء، واتخذت صيغتها السوية، ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنساني وتوجيهه من خلال ما حققه الأنبياء في هذا المجال من تنظيم اجتماعي قائم على أساس الحق والعدل يستهدف الحفاظ على وحدة البشرية وتطوير نموها في مسارها الصحيح. قال الله تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة: 213])...
    ... الى ان يقول:
    (وفي المرحلة ظهرت فكرة الدولة على يد الأنبياء وقام الأنبياء بدورهم في بناء الدولة السليمة، ووضع الله تعالى للدولة أسسها وقواعدها كما لاحظنا في الآية الكريمة المتقدمة الذكر. وظل الأنبياء يواصلون بشكل وآخر دورهم العظيم في بناء الدولة الصالحة، وقد تولى عدد كبير منهم الاشراف المباشر على الدولة كداوود وسليمان وغيرهما، وقضى بعض الأنبياء كل حياته وهو يسعى في هذا السبيل كما في حالة موسى (ع)، واستطاع خاتم الأنبياء (ص) أن يتوّج جهود سلفه الطاهر بإقامة أنظف وأطهر دولة في التاريخ شكلت بحق منعطفاً عظيماً في تاريخ الإنسان وجسدت مبادئ الدولة الصالحة تجسيداً كاملاً ورائعاً).
    ان الدولة التي اسسها النبي (صلى الله عليه وآله) امتزج وجودها بالاسلام، فالدولة الاسلامية الإلهية هي جزء من الاسلام المحمدي الذي اعلن الله تبارك وتعالى اكتماله وارتضاءه للناس دينا وبه اتم النعمة على الناس، فقال تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)). ليس هذا فحسب بل ان تلك الدولة حازت على رضا الله سبحانه وتعالى وإكماله لدينه وارتضاءه للناس حين تم إقرار طريقة انتقال السلطة في الدولة الاسلامية، فمن المعروف تأريخياً ان هذه الآية الكريمة إنما نزلت بعد بيعة يوم الغدير، حينما اعلن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وأنه وصيّه وخليفته في امته، بالقول المروي عنه بالتواتر: ((من كنت مولاه فهذا علي مولاه)). وبذلك يكون الاسلام مكتمل ومرضي من قبل الله عز وجلَّ حينما يكون قائماً بدولة كريمة تعز الاسلام واهله، يقودها المعصوم (صلوات الله عليه).
    إذن هناك تلازم بين وجود الدولة الاسلامية ووجود المعصوم (عليه السلام)، وحتمية عدم رضا الله تبارك وتعالى عن الاسلام الا بقيادة المعصوم (عليه السلام) له ووجود الدولة الاسلامية. حيث ان المعصوم (عليه السلام) هو وصي النبي (صلى الله عليه وآله) والامتداد او الاستمرار لمهامه المرجعية للامة، فمن الطبيعي ان يكون حكم الدولة التي تركها النبي (صلى الله عليه وآله) هي للمعصوم (عليه السلام) لكونه الوصي والولي والخليفة الشرعي.
    ومن الطبيعي ان لا يرضى الله سبحانه وتعالى عن الاسلام الاموي او العباسي او العثماني او الاسلام الصوفي او الوهابي او اي نسخة اخرى من الاسلام سوى التي انزلها تبارك وتعالى وهي نسخة الاسلام المحمدي الذي مرجعيته آل البيت الاطهار (عليهم السلام).
    وفي الدولة الاسلامية التي يقودها المعصوم (عليه السلام) تندمج السلطة مع السيادة الاسلامية. فكل مفاصل الدولة وقوانينها واقتصادها وتجارتها وزراعتها وحركة المجتمع، تبنى على اساس سيادة الاسلام، أي حكم الاسلام وشرعيته المقدسة في كل شؤون الدولة والمجتمع. فالمعصوم (عليه السلام) هو الراعي والضامن لتحقيق سيادة الاسلام، ولا تقام الدولة الاسلامية الإلهية بدونه.

    الدولة الدينية في عصر الغيبة الكبرى:
    يلاحظ عبر مراحل التاريخ وجود إجماع عند علماء الشيعة الامامية على عدم جواز إقامة دولة دينية، وربما يكون المقصود بالتحريم هو الدولة الدينية التي يقودها إنسان غير معصوم. أو تلك الدولة التي تروّج لزعامة وتقديس شخصيات غير معصومة على نمط خلفاء بني امية وبني العباس وآل عثمان، بل وحتى المملكة الصفوية والمملكة القاجارية والمملكة البهلوية.
    وهناك رأي يقول انه ربما يكون المقصود بإجماع علماء الشيعة على عدم جواز إقامة دولة دينية هو عدم جواز السعي لجمع الشيعة في كيان منغلق ومستقل بعيداً عن المكونات الاسلامية والانسانية الاخرى فدولة الكيانية الشيعية التي تنفر عن مباديء الوحدة الاسلامية والشراكة الاجتماعية مع بقية المسلمين المنتمين لمذاهب أخرى ربما تكون مشمولة بالمنع المشار اليه في الروايات الشريفة وفي إجماع الشيعة. وهذا لا يتعارض مع السعي لإقامة دولة تحترم الاسلام وسيادته وتنص على ذلك الاحترام في دستورها عبر التأكيد على كون الاسلام هو دين الدولة وانه المصدر الوحيد للتشريع، ويكون جميع المسلمين فيها بإختلاف مذاهبهم في تعايش وسلم اهلي وبدون أي تمييز بينهم من قبل السلطة.
    إذن يمكن أن نقول انه ربما يكون الاصل هو ترسيخ وجود الاسلام وسيادته في الحياة، وان اية دولة تحقق هذا المطلب يجب إقامتها على ان لا تخالف شروط الروايات الشريفة، أي ان لا تكون منغلقة مذهبياً ولا دولة كيانية، ولا دولة ترفع اشخاصاً غير معصومين الى مرتبة اعلى من مرتبتهم المعتادة.





  • #2
    ج2

    المحور الثاني
    هل الدولة الدينية جزء أصيل في العقيدة والفقه الشيعي الإمامي؟

    الجواب على سؤال هذا المحور يتعدد بين عصر حضور المعصوم (عليه السلام) وبين عصر الغيبة الكبرى. فقد ذكرنا في المحور السابق ان الاسلام متلازم في وجوده كه وجود دولة دينية إلهية بقيادة المعصوم (صلوات الله عليه). أمّا في عصر الغيبة الكبرى فنجد ان ادبيات الفقه والتراث الشيعي تتجه نحو ترسيخ الوجود المذهبي في ظل وجود حكومات جائرة مستبدة تتبنى مذاهب اخرى للمخالفين من المسلمين، سواء اعلنت تلك السلطات الجائرة نفسها دولة خلافة وفق المباني الفقهية لأهل السنة ام لم تعلنها. كما انَّ تلك الادبيات والتراث الشيعي يتجه أيضاً نحو ترسيخ الوجود الاسلامي بعدما زالت تلك الحكومات المستبدة الجائرة الطاغوتية واستولت القوى العلمانية على السلطة في بلاد المسلمين وهي قوى جاهدة في طمس معالم الاسلام ووجوده بما تتمكن منهن ومن امثلتها الدولة الاتاتوركية في تركيا والدول القومية التي تأسست في ظل الاستعمار لتحكم بلاد المسلمين في ايران البهلوية والدول العربية، وغيرها.

    تطور العلاقة مع السلطة في زمن الغيبة الكبرى:
    إنَّ الموقف الشيعي من السلطات القائمة في عصر الغيبة الكبرى هو أنّه يعتبرها سلطات جائرة طاغوتية مغتصبة للسلطة، وكانت هذه النظرة تحيط رؤية الفقيه الشيعي في علاقته بالسلطة الجائرة. ومن خلال هذه العلاقة بين الفقيه والسلطة هناك عامل مهم كان يتدخل للتحكم بها، وهو عامل علاقة السلطة الطاغوتية بوجود الاسلام ورسوخه ، حيث يمكن ان نميّز ثلاثة اتجاهات:
    الاول: حينما تكون السلطة الجائرة تحكم بأسم الدين راعية لوجود الاسلام ورسوخه في المجتمع والذي يُسمّى في الفقه (بيضة الاسلام)، متمذهبة بمذهب معين من مذاهب المسلمين المخالفين للتشيّع، فلم تكن هناك مشكلة واضحة معها سوى استبدادها للسلطة. وفي هذا الاتجاه كان الفقه الشيعي يدعو لتجنب السلطة بلا تصدي لها، وأيضاً بلا تعاون معها إنطلاقاً من قوله تعالى: ((وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)).
    الثاني: حينما تكون السلطة كما في الفقرة السابقة، ولكنها تستهدف مذهب الشيعة بالابادة ومحاربتها لهم وجوداً وعقيدة. كما حصل في فترات عديدة من التأريخ الاسود لمناطق وبلدان عديدة في ظل الحكم الاموي والعباسي والعثماني وغيرها. وفي ظل هذه المآسي لم يكن الفقيه يتمكن سوى من انقاذ ما يتمكن من انقاذه من اعراض وارواح واموال المؤمنين والمؤمنات.
    الثالث: حينما تكون السلطة الجائرة تحكم بلاد المسلمين ولكنها متبنية لآيديولوجية علمانية رافضة لترسيخ الاسلام في الدولة والمجتمع، مضطرة بحسب واقع الحال الى قبول حد ادنى من وجود الاسلام تكون غالباً مقتصرة على المستوى الاجتماعي وقانون الاحوال الشخصية وبعض الاعراف الاجتماعية المحافظة، والفعاليات الدينية المحددة كصلاة الجمعة والاحتفالات السنوية كيوم عاشوراء ومولد النبي (صلى الله عليه وآله) وغيرها. وفي هذا الاتجاه ايضاً نجد الفقيه الشيعي يتجنبها بلا تصدي ولا تعاون، مع انتهاج سياسة مطلبية معينة للحصول على بعض الامتيازات التي تعزز وجود الاسلام في المجتمع وترسيخه.
    الرابع: حينما تكون السلطة الجائرة تحكم بلاد المسلمين بأسم آيديولوجية علمانية شوفينية تستهدف إقصاء الدين من الدولة والمجتمع وطمس معالمه كلياً، منتهجة سياسة عدوانية تجاه الدين وفقهائه ومظاهره الاجتماعية بهدف القضاء عليها. وفي هذا الاتجاه كان عموم الفقهاء قد اتخذوا دورين متنوعين في التعامل مع مثل هذه السلطات الجائرة، دور اتخذ جانب الصبر والصمود لإنقاذ ما يمكن انقاذه من اعراض وارواح واموال المؤمنين والمؤمنات. فيعمدون للابتعاد عن إثارة السلطات الجائرة الشوفينية التي غالباً ما تختلق الذرائع للبطش بالدين ومؤسساته ورموزه ووجوده. ودور آخر مارسه فقهاء آخرون يقضي بالتصدي السلمي او الثوري ، بحسب الظروف المتحققة، للسلطات المستبدة الشوفينية، لدرجة التضحية بالنفس والمال من أجل كسر شوكة السلطات الجائرة الشوفينية وإخضاعها لرغبات الشعب وطموحه في تحقيق الوجود للاسلام وترسيخه في المجتمع والدولة، او العمل والجهاد والتضحية للقضاء عليها وتخليص الشعب منها.
    وضمن هذه الاتجاهات الاربعة لم يكن الفقيه الشيعي يسعى لإقامة حكم ديني واستلام السلطة. فلم يحدث قبل اندلاع الثورة الاسلامية في ايران بقيادة السيد الخميني ان مرجعاً شيعياً، عبر تاريخ المرجعيات الدينية الشيعية، سعى لتغيير النظام السياسي للدولة في أية بقعة من بقاع الارض، بل كانت المرجعية الدينية تسعى دائما للاصلاح والتقويم وفرض مطالبها على السلطات الحاكمة من خلال سلطتها الروحية على جماهيرها المؤمنة. ورغم ان الفقيه المرجع قد يرى الولاية العامة لنفسه او يرى الحسبة او غيرها من الرؤى الفقهية، الا ان المراجع لم يستخدموا صلاحياتهم تلك لتأسيس دولة بل لاصلاح الاوضاع السياسية والاجتماعية والدفاع عن الوطن دون المساس بالنظام السياسي القائم. حيث يبدو ان قول الفقيه بوجود صلاحية واسعة له كولاية الفقيه العامة لا يعني بها ان له الحق في إقامة دولة دينية، رعاية للروايات التي تحذر من إقامة سلطة دينية قبل ظهور الامام المنتظر (عجَّل الله فرجه الشريف).
    يقول الاستاذ عبد الجبار الرفاعي:
    [حتى نهاية القرن التاسع عشر ٬ لا نعثر على أية دعوة أو محاولة لإقامة دولة إسلامية بديلة للملكية القاجارية ٬ ففي 28 رجب 1308 هـ (مارس 1891 ) وقع الشاه ناصر الدين امتياز احتكار تجارة التبغ الإيراني لمدة خمسين عاما ٬ مع شركة الميجر تالبوت ٬ مقابل 25 ألف جنيه تدفع للشاه ٬ و 15 ألفا للصدر الأعظم أمين السلطان ٬ إضافة إلى رسم سنوي يبلغ 15 ألف جنيه ٬ وحصة من أرباح الشركة تصل إلى 25 بالمائة. اثر تدشين الشركة لعملها في إيران ٬ فرضت هيمنتها على كل ما يتصل بزراعة وتجارة التبوغ ٬ وتعسفت في فرض أسعار متدنية جدا ٬ ما أدى إلى اندلاع انتفاضة قادها بعض العلماء في شيراز واصفهان وطهران ٬ وحدثت مواجهات حادة بين المنتفضين وقوات الشاه ٬ فلجأ العلماء للمرجع الميرزا محمد حسن الشيرازي في سامراء واستغاثوا به ٬فأصدر فتواه الشهيرة: .« اليوم استعمال التبغ والتنباك بأي نحو كان ٬ في حكم محاربة إمام الزمان صلوات لله وسلامه عليه. حرره الأقل: محمد حسن الحسيني » وقد وزع: من الرسالة 100 ألف نسخة في العاصمة طهران وغيرها ٬ في أوائل جمادي الثانية 1308هـ (أوائل ديسمبر 1891 م). وأدت الفتوى إلى انهيار امتياز الشركة البريطانية وانسحابها من إيران. ما أود أن أخلص له ٬ ان المرجعية لم ترفع شعارا للقضاء على السلطنة القاجارية ٬ ولم تنطلق أية دعوة لاستبعاد الشاه أو استبداله بسواه بل أن رسائل المرجع محمد حسن الشيرازي إلى ناصر الدين قبل صدور فتواه ٬ التي تضمنت معارضته والعلماء لامتياز شركة التبغ ٬ لم تغفل عبارات الثناء والمجاملة ٬ ولم تشر إلى اعتزامهم خلعه عن العرش. وتوضح الرسائل بأن الميرزا كان يفضل أن يستجيب الشاه ويلغي امتياز الشركة ٬ كيما لا يضطر لإصدار فتواه. ولم تستثمر هذه الفتوى ويستغل الفقهاء آثارها السياسية والاجتماعية في المضي لإقامة حكومة أخرى غير السلطنة القاجارية ٬ مع أن الشاه كان في حالة استسلام وضعف وانهيار شامل لسلطاته.
    هكذا اقتصرت الدعوة في مرحلة لاحقة على وضع دستور ٬ وتقييد سلطة الشاه المطلقة ٬ في حركة المشروطة مطلع القرن العشرين ٬ من دون أن تتجاوز ذلك إلى إلغاء السلطنة ٬ وإشادة دولة تتأسس على مرجعية الفقه. وتكشف رسائل وجهها آية لله محمد الطباطبائي أبرز قادة المشروطة في بداياتها ٬ عن أن الدستوريين لا ينشدون القضاء على الدولة ٬ كتب إلى الشاه مظفر الدين: «... يستحيل أن نكون من مريدي السوء للحكومة ٬ ليس من المعقول ان يكون الداعي بالخير ساكتا عن هذه الأخطار ٬ وساعيا لتدمير الدولة...». وجاء في رسالة اخرى له: «... اصلاح جميع المفاسد منحصر بتأسيس المجلس ٬ واتحاد الأمة مع الدولة ٬ ورجال الحكم مع العلماء... الإصلاح آت عما قريب ٬ لكنا نريده على يد ملكنا وزعيمنا ٬ لا على يد الروس والعثمانيين والانجليز][1].

    موقف منظمة الحجتية:
    وهذا السلوك للمرجعيات الدينية عبر التاريخ قد يفسر لنا موقف منظمة الحجتية (انجمن حجتية) التي اسسها الشيخ محمود الحلبي سنة 1953م لمكافحة البهائية في ايران، فيما نُسِبَ إليها من رفض للانخراط في اعمال العنف الثورية التي تريد تغيير نظام حكم المقبور الشاه محمد رضا بهلوي في احداث قيام الثورة الاسلامية بقيادة السيد الخميني، فهي بالاضافة الى كونها مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني ونشاطها متخصص بالجانب الثقافي الفكري ضمن إطار محدد هو مكافحة البهائية والرد عليها وإستنهاض الهمم لإنتظار دولة صاحب الامر (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف) وربط المؤمنين بوجوده الشريف، فكذلك كان اعضاء هذه المنظمة يرجعون بالتقليد للمرجعيات العامّة في ذلك الوقت وملتزمون بتوجهاتها ومنهجها. وقد وُجِّهت لهم لهم إنتقادات شديدة وتهم عديدة، وتعرضوا لحملة شرسة لموقفهم من عدم مناصرة الثورة الاسلامية قبل انتصارها، مع انهم تقبّلوا الثورة بعد انتصارها واصبحوا من مؤيديها ولكن لم يمنعهم هذا التأييد من التعرض للإنتقادات الشرسة التي تعرضوا اليها !

    تعليق


    • #3

      بعضاً من روايات المنع من قيام دولة دينية:
      والاتجاهات الاربعة المذكورة آنفاً، كانت فيما يبدو متأثرة بمجموعة من الروايات الموجودة في الموروث الشيعي والتي فهموا منها انها تمنع من إستلام السلطة أو إقامة دولة دينية قبل قيام القائم (عجَّل الله فرجه الشريف)، منها هذه الروايات التي قد يختلف الفقهاء حولها سنداً ودلالة:
      ـ في وسائل الشيعة، "رواية يونس التامّة سنداً، قال: «سأل أبا الحسن (عليه السلام) رجل وأنا حاضر... إلى أن قال: قال: يقاتل عن بيضة الإسلام. قال: يجاهد؟ قال: لا إلاّ أن يخاف على دار المسلمين، أرأيتك لو أنّ الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ لهم ( لم يسع لهم خ ل ) أن يمنعوهم، قال: يرابط ولا يقاتل، وإن خاف على بيضة الإسلام والمسلمين قاتل، فيكون قتاله لنفسه ليس للسلطان؛ لأنّ في دروس الإسلام دروس ذكر محمد (صلى الله عليه وآله)»"[2].
      ـ في وسائل الشيعة: "عن أبي بصير بسند تامّ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: (كلّ راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون اللّه عزّ وجلّ)"[3].
      ـ في وسائل الشيعة: "رواية عيص بن القاسم التامّة سنداً: «قال: سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: عليكم بتقوى اللّه وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم، فواللّه إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي فإذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه، ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، واللّه لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها ثمّ كانت الأُخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد واللّه ذهبت التوبة، فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آت منّا فانظروا على أيّ شيء تخرجون، ولا تقولوا خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً، وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه، وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه، إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه، فالخارج منّا اليوم إلى أيّ شيء يدعوكم؟ إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)؟ فنحن نشهدكم أنا لسنا نرضى به، وهو يعصينا اليوم، وليس معه أحد وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منّا إلاّ من اجتمعت بنو فاطمة معه، فواللّه ما صاحبكم إلاّ من اجتمعوا عليه، إذا كان رجب فأقبلوا على اسم اللّه، وإن أحببتم أن تتأخّروا إلى شعبان فلا ضير، وإن أحببتم أن تصوموا في أهاليكم، فلعلّ ذلك يكون أقوى لكم، وكفاكم بالسفياني علامة»"[4].
      ـ في وسائل الشيعة: "رواية سدير التامّة سنداً: «قال: قال أبو عبداللّه (عليه السلام): الزم بيتك، وكن حلساً من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك أنّ السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك»"[5].
      ـ وفي وسائل الشيعة: "رواية جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «الزم الأرض، ولا تحرّك يداً ولا رجلا حتى ترى علامات أذكرها لك، وما أراك تدركها: اختلاف بني فلان، ومناد ينادي من السماء، ويجيئكم الصوت من ناحية دمشق...»".
      ـ في وسائل الشيعة: "رواية عمر بن حنظلة التامّة سنداً قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: خمس علامات قبل قيام القائم: الصيحة، والسفياني، والخسف، وقتل النفس الزكية، واليماني. فقلت: جعلت فداك إن خرج أحد من أهل بيتك قبل هذه العلامات أنخرج معه؟ قال: لا...»"[6].
      ـ وفي شرح الصحيفة السجادية للسيد محمد باقر الداماد: "من حديث عن متوكّل بن هارون عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «ما خرج ولا يخرج منّا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلماً أو ينعش حقّاً إلاّ اصطلمته البلية، وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا»"[7].
      وفي هذا الصدد يقول الدكتور صادق حقيقت[8]:
      (أن الفقهاء الشيعة لم يكن بمقدورهم طرح نظرية الدولة أساساً؛ ذلك أنهم لم يوافقوا على ضرورة تشكيل الدولة على أساس الشريعة على مرّ التاريخ)[9].

      الفقه الشيعي والحاكم المستبدّ:
      ولا يتصور احد ان الفقه الشيعي قاصر عن ايجاد بديل عن حالة القبول بالامر الواقع أي القبول بحالة وجود حاكم مستبد وعدم السعي لتغييره وإقامة حكم شيعي بديل، والاكتفاء بالمطالبة بتحقيق بعض القضايا التي تحقق حداً معيناً من الحاكمية الدينية. فالدين اولاً وآخراً هو دين الله سبحانه وتعالى، وإذا أراد الله جلَّ جلاله أمراً فلا راد لحكمه. ولذلك فمن الواضح ان هناك حكمة إلهية من منع تكوين دولة دينية في عصر الغيبة الكبرى، علمناها ام لم نعلمها، وان تبقى الدول في عهد الغيبة الكبرى بيد المستبدين الطاغين بمختلف صنوفهم، راسماليين او علمانيين او ماركسيين أو قوميين إلخ، ربما لكي تمر على الانسانية جميع اصناف الافكار البشرية وتفشل جميعها في إقامة الحق والعدل والمساواة والامان للناس، إعلاناً لأهمية القادم، ولضرورة الحاكم المعصوم الآتي زمانه. ولعلماء الشيعة الامامية أسوة حسنة بأئمة اهل البيت الاطهار الهُداة (صلوات الله عليهم) الذين عاشوا في عصور الحكام الطغاة المستبدين الجائرين، يؤدون دورهم في إمامة الأمة، دون التحرك لإزالة طواغيت عصرهم، لأسباب هم خير من يعرفها ويقررها (صلوات الله عليهم)، مع ان الشيعة عموماً يؤمنون أن الائمة الهداة (صلوات الله عليهم) تخضع لهم ذرات الكون كلها بأمر الله سبحانه وتعالى، فدعائهم ومعرفتهم بالاسم الاعظم كافيان لتغيير كل ما لا يرغبونه نحو ما يريدونه، ولكنهم لم يكونوا يسيرون إلا بما سنّه الله سبحانه وتعالى من جعل الامور في الحياة البشرية تجري بسياقاتها الطبيعية بصورة عامة. ولذلك قدمّوا التضحيات وصبروا وصمدوا وبيّنوا لشيعتهم ما يجب ان يسلكوه وينهجوه في مواجهة السلطات الظالمة.
      ولا ننسى ان فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قائمة، لا يعارضها الاعراض عن تأسيس دولة دينية، ولذلك تجد ان هناك مطالب تصحيحية مهمة من قبل كبار علماء الشيعة من اجل المحافظة على الوجود الاسلامي في المجتمع ورسوخه، ومحاربة المظاهر الفاسدة التي تنشأ من قبل السلطات الحاكمة او غيرها.

      اربعة انعطافات مهمة في الموروث الشيعي:
      وفي تلك العصور جميعها كان الفقهاء وكبار العلماء يقيمون ويديمون الحاكمية الدينية بالاستناد الى مبدأ الحسبة أو ولاية الفقيه الخاصة او المقيّدة بحدود معينة، ثم حدث بعد ذلك اربعة إنعطافات أو متغيرات مهمة كان لها اثرها الكبير في مسيرة مذهب الشيعة الامامية والمجتمع الشيعي وعلاقته بالسلطات الحاكمة:
      الأول. إطلاق يد المحقق الكركي المعروف بأسم المحقق الثاني (توفي 940هـ) في تشريع قوانين الدولة الصفوية من قبل الشاه طهماسب أبن الشاه اسماعيل الصفوي مؤسس المملكة الصفوية. وبذلك انفتح الفقه الشيعي لنوع من التاييد او التعاون مع بعض السلطات الجائرة والتي سلمت زمام الدولة الى الفقيه فأصبح له حق تشريع القوانين ورعاية وجود الاسلام وسيادته، دون حق السلطة والحكم. "واستند الكركي في فتاويه الى خلفية تقول بأن الفقيه المأمون الجامع للشرائط منصوب من الامام المهدي وبالتالي فهو الذي يعطي الحاكم الشرعية، وبهذا كانت إمامته تطوراً في الفكر السياسي رغم افتقارها الى نظرية كليّة وواضحة"[10].
      ويتحدث الشيخ الدكتور محسن الحيدري عن المحقق الكركي (رضوان الله عليه) فيقول:
      (ومن ألمع فصول حياته دوره في نشر التشيّع في ايران وقبوله لمنصب (شيخ الاسلام) في العهد الصفوي وتصدّيه لأعمال ولاية الفقيه في إجراء الحدود الشرعية وترويج الاحكام الدينية ونصب الولاة والقضاة وأئمة الجمعة والجماعة وما إلى ذلك من الشؤون الاجتماعية. وذلك في زمن الشاه اسماعيل الصفوي عام 916، حينما اتجه المحقق الثاني الى ايران فلقي ترحاباً من الملك ورجال الدولة والعلماء. وان الشاه طهماسب بعد ابيه الشاه اسماعيل فتح المجال الواسع وبسط اليد للمحقق الثاني في إدارة شؤون البلاد وقد صرّح الملك في العهد الذي أصدره مخاطباً لذلك الفقيه الورع عام 939 انك أولى مني بالحكومة وتدبير شؤون المملكة لأنك نائب الامام الحجة وإنما انا طوع امرك ونهيك اعمل كأحد الحكام المأذونين من قبلك. وقد أمر الملك في ذلك العهد جميع الحكام والولاة بالانصياع لأوامر المحقق الثاني واكّد بأن نصب الولاة وعزلهم بيده وقد عمل المحقق الثاني في تلك الفترة التاريخية في سبيل ترويج مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في أقطار ايران وإقامة الجمعات والجماعات وإجراء الحدود الشرعية والحكم بالعدل بين المؤمنين واقتلاع جذور الفساد والمنكرات. وقد صرّح المؤرخ حسن بيك دوملو في أحسن التواريخ: أنه لم يعمل بعد الخواجة نصير الدين الطوسي أحد في إعلاء مذهب الشيعة ومرام الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) مثل ما قام به المحقق الثاني. وعلى هذا لا يتوهم متوهّم في تدخل المحقق الثاني في القضايا الحكومية بأنه تأييد للسلاطين وذلك لأن نشر الاسلام والتشيّع في تلك الاونة التي حصل على يده وعلى أيدي تلامذته وتلامذة تلامذته كالشيخ البهائي والمير داماد والعلامة المجلسي وغيرهم كان متوقفاً على ذلك التدخل التأريخي، ولا يمكن لنا الحكم على امثال تلكم الفطاحل من الفقهاء بأحكام جائرة بدون النظر الى ظروف تلك الآونة واخذها بعين الاعتبار وقياس ظروف الملوك والطواغيت في هذه الازمان على تلك الظروف. والمحقق الثاني الذي دخل ميدان الحكم مبسوط اليد من أجل إعلاء كلمة الله وتنفيذ أحكام شريعة سيّد المرسلين (صلى الله عليه وآله) لم يأل جهداً في قطع أيدي الظلمة والمستبدين. وهذا مما أثار حفائظهم، فدبّروا مكيدة للقضاء على حياته الشريفة فارتحل الى رحمة الله شهيداً مسموماً على أيدي عملاء الظالمين)[11].

      ويقول د. توفيق السيف:
      (تشير اكثر الروايات الى ان الكركي كان نافذاً في حكومة الشاه طهماسب. ويذكر البحراني مثلاً ان الشاه أمر ولاته "بإمتثال ما يأمر به الشيخ المذكور وإن اصل الملك إنما هو له لأنه نائب الامام (ع) فكان الشيخ يكتب الى جميع البلدان كتباً بدستور العمل في الخراج وما ينبغي تدبيره في شؤون الرعية" ... واصدر طهماسب فرماناً مفصلا في 939 يتضمن الصلاحيات المحالة للكركي (بصفته نائباً عن الائمة المعصومين) وما يترتب على ولاة الاقاليم من طاعته، والامتيازات السياسية والمالية الممنوحة له. ... ويقول الجزائري ان الشاه مكنه من السلطة "وقال له انت احق بالملك لأنك النائب عن الامام وإنما أكون من عمالك أقوم بأوامرك ونواهيك")[12].
      إذن المحقق الكركي بدوره "منح الشاه طهماسب الصفوي (930- 984) اذنا للحكم مستنداً الى صفته كنائب للامام"[13]. وواضح ان المحقق الكركي كان معذوراً في هذا الامر الذي من خلاله يتمكن من تحقيق بعض العدالة في المجتمع ولو لفترة زمنية محدودة.
      ويقول عبد الجبار الرفاعي:
      (حين كان المحقق الكركي المتوفي سنة 940هـ أول من صرح، بأن الفقيه منصوب من قبل الأئمة في عصر الغيبة، نائب عنهم في جميع ما للنيابة فيه من مدخل، بالاستناد الى مقبولة عمر بن حنظلة. فقد ذكر (ان الفقيه العدل الامامي الجامع لشرائط الفتوى، المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية، نائب من قبل أئمة الهدى في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه من مدخل ـ وربما استثنى الأصحاب القتل والحدود مطلقا ـ فيجب التحاكم اليه والانقياد الى حكمه، وله أن يبيع مال الممتنع من أداء الحق ان احتيج اليه، ويلي أموال الغياب والأطفال والسفهاء والمفلسين، ويتصرف على المحجور عليهم، الى آخر مايثبت للحاكم المنصوب من قبل الامام. والأصل فيه مارواه الشيخ في التهذيب بإسناد الى عمر بن حنظلة، عن مولانا الصادق جعفر بن محمد أنه قال:"انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا فارضوا به حَكَما فاني قد جعلته عليكم حاكما، فاذا حكم بحكمنا ولم يقبله منه، فانما بحكم الله استخف وعلينا رد، وهو راد على الله، وهو على حد الشرك بالله، واذا اختلفا فالحكم ماحكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما" وفي معناه أحاديث كثيرة... والمقصود من هذا الحديث هنا: ان الفقيه الموصوف بالأوصاف المعينة، منصوب من قبل أئمتنا، نائب عنهم في جميع ما للنيابة فيه من مدخل بمقتضى قوله:"فاني قد جعلته عليكم حاكما" وهذه استنابة على وجه كلي) – أنظر: "رسالة صلاة الجمعة" في: "رسائل المحقق الكركي". تحقيق: الشيخ محمد الحسون - كذلك أشار المحقق الكركي الى ان الفقيه المستجمع لشرائط الفتوى والحكم هو النائب العام للمعصوم في عصر الغيبة،في كتابه "جامع المقاصد" عند الحديث عن الوصية بالولاية قائلا: (لايخفى ان الولاية بالأصالة على الطفل ثابتة لأبيه ثم لجده الأدنى، ثم من يليه وهكذا. ولا ولاية للأبعد مع وجود الأقرب، فمع عدم الأب والجد فوصي الأب، فإن فقد فوصي الجد، ومع عدم الجميع فالحاكم. والمراد به الامام المعصوم أو نائبه الخاص، وفي زمان الغيبة النائب العام، وهو المستجمع لشرائط الفتوى والحكم. وانما سُمي نائبا عاما لأنه منصوب على وجه كلي بقولهم: "انظروا الى من كان منكم" الحديث .... ولايخفى ان الحاكم حيث أُطلق لايراد به الاّ الفقيه الجامع للشرائط))[14].
      ثم يضيف عبد الجبار الرفاعي:
      (ولم تكن الدولة الاسلامية أو الحكومة الاسلامية مفكرا فيها، في الرؤية الفقهية للكركي، حسبما يفكر فيها الاسلاميون منذ النصف الثاني من القرن العشرين؛ وانما كان بصدد اسباغ المشروعية على السلطنة الصفوية، وتسويغ سلوك الشاه طهماسب (ت 984هـ/1576م)، وامضائه باعتباره يمتلك الحق الالهي الممنوح له لنيابته عن الامام؛ فيفيض هذا الحق على السلطان وينصبه حاكما. وهو موقف رفضه أبرز فقهاء عصره كالشيخ ابراهيم القطيفي الذي وجه نقدا صريحا للكركي، وعاب عليه قبوله لهدايا السلاطين الصفويين، مما اضطر الأخير للرد عليه برسالته الموسومة "قاطعة اللجاج في تحقيق حل الخراج" دلل فيها على صحة سلوكه، فرد عليه القطيفي رسالة أسماها "السراج الوهاج في دفع قاطعة اللجاج". ودعم بعض الفقهاء المعاصرين موقف القطيفي؛ فكتب المقدس الأردبيلي رسالة في هذا الموضوع، وكذلك الشيباني، واشتهرت هذه المجموعة من الرسائل بـ "الخراجيات". وكان الشيخ جعفر الجناجي (1154ـ 1228هـ) والذي اشتهر فيما بعد بكاشف الغطاء، نسبة الى كتابه المعروف "كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء" من أبرز الفقهاء الذين أسسوا للمرجعية الدينية في النجف، وفي سياق حديثه عن الجهاد عندما تعرضت ايران للغزو الروسي في العهد القاجاري وطلب منه الشاه القاجاري سنة 1223هـ تأييده في مقاومة الروس، فوض المجتهدين القيام بالجهاد الدفاعي في حالة غيبة الامام، ونص على وجوب (طاعة الناس لهم، من خالفهم فقد خالف امامهم). وذهب الى (ان الفقيه الجامع للشرائط قائم ـ حقيقة ـ مقام الامام، ليس في الشرعيات والامور الحسبية فقط، بل في سائر الأمور، من ادارة البلاد والعباد الى الحرب والجهاد، الى الولاية على المال العام، وبالتالي فانه يتحدث هنا عن الفقيه باعتباره الوالي بالأصل، وان السلطان تالٍ له، ومستمد شرعيته من إذنه). ثم جاء من بعده أحمد النراقي المتوفى سنة 1245هـ؛ فأفرد بحثا مستوعبا في كتابه "عوائد الأيام" (في بيان ولاية الحاكم وماله فيه الولاية على ماجاء في الأخبار)، ويمكن القول أن هذا الفقيه هو أول من صاغ بشكل واضح الوظيفة السياسية للفقهاء في عصر الغيبة)[15].
      في ظرف معين وفي فترة تأريخية معيّنة أمكن للمحقق الكركي فقهياً ان يمنح التفويض لشخص واحد ليحكم هو الشاه على ان يكون مقيداً بالشريعة الاسلامية التي يوجهه المحقق الكركي إليها من خلال تعليمات وتوجيهات وأوامر كان يكتبها الى الاقاليم بشأن الخراج وغيره. وبذلك تكون رعاية الوجود الاسلامي موجودة في تلك الفترة بصورة واضحة.
      ثانياً.، التأسيس الفقهي لـ (ولاية الفقيه العامة)، في القرن الثالث عشر الهجري، حيث كتب الشيخ احمد النراقي (1185 – 1245)هـ نظرية ولاية الفقيه العامة في كتابه (عوائد الايام). وهو اول فقيه شيعي يذهب الى هذا البعد والسعة في ولاية الفقيه بالاستناد الى الاستنباط الفقهي. ومن خلال ولاية الفقيه العامة ازدادت قوة الفقيه في المطالبة بترسيخ الحاكمية الدينية في الدولة والمجتمع. وقبل ذلك كان الفقهاء يتحركون في مطالبهم بالاستناد الى الحسبة.
      يقول عبد الجبار الرفاعي وهو يتحدث عن المحقق الكركي:
      (ثم جاء من بعده أحمد النراقي المتوفى سنة 1245هـ؛ فأفرد بحثا مستوعبا في كتابه "عوائد الأيام" (في بيان ولاية الحاكم وماله فيه الولاية على ماجاء في الأخبار)، ويمكن القول أن هذا الفقيه هو أول من صاغ بشكل واضح الوظيفة السياسية للفقهاء في عصر الغيبة)[16].
      فرغم ان الشيخ احمد النراقي قد وضع اسس وصياغة نظرية ولاية الفقيه العامة ولكنه لم يذهب الى وجوب إقامة دولة يحكمها الفقيه، فكانت علاقته غير متوترة مع الدولة القاجارية إذ انها كانت في تلك الفترة تحترم العلماء وتقبل بسيادة الاسلام، بل وتظهر نفسها بانها الراعية للدين والحامية للمذهب. وهذا يبين ان القول بولاية الفقيه العامة لا يستلزم القول بوجوب تأسيس دولة دينية على رأسها الفقيه.

      ثالثاً. ظهور المطالبة بالدستور والمجالس التشريعية في الفقه الشيعي: ظهرت دعوات فقهية من كبار الفقهاء بأن يخضع الحاكم الى مجلس تشريعي منتخب ودستور مكتوب، كما حدث في احداث المشروطة في ايام الدولة القاجارية سنة 1906م، وظهور كتاب (تنبيه الامة وتنزيه الملة) للمحقق النائيني سنة 1909م. ويمكن تشخيص هذا الاتجاه بأنّه اول تدخل فعلي من قبل الفقيه الشيعي في شكل السلطة الحاكمة.
      فهذا الاتجاه يتحدث عن وجود حاكم مستبد بالسلطة يُظهِرُ الاسلام ويزعم رعايته لوجوده وسيادته، فيرى هذا الاتجاه ضرورة تقييد ذلك الحاكم بالدستور وبمجلس منتخب لضمان صحة سلوكه الديني، وهو المطلب الذي يظهر من قبل اصحاب المشروطة سنة 1906م تجاه السلطة الملكية القاجارية، وهو مطلب الجماعة التي برز في قيادتها الفقيه الآخوند الخراساني. في حين يرى علماء آخرون ان وجود مجلس منتخب دون رقابة دينية حقيقية عليه قد يفسح المجال لتسلل العناصر غير المتدينة بالشريعة الاسلامية من قبيل العلمانيين والمسيحيين واليهود والملحدين مما يؤدي الى صدور تشريعات مخالفة للشريعة، وهذا قد يُعلل موقف المرجع الديني العام في وقته السيد اليزدي (رضوان الله عليه) في ايام احداث المشروطة، واصحاب هذا الاتجاه كان يطلق عليهم اسم المشروعة أي دعاة تطبيق الشريعة. والظاهر ان موقف اتباع المشروعة هو امتداد للموقف الشيعي العام المستند لروايات الشريفة، وهو موقف إجماع علماء الشيعة في منع إقامة دولة شيعية والذي يمثله الاتجاه العام للمرجعيات الدينية الشيعية، حيث ان المشروطة هم اتجاه جديد ظهر داخل التشيّع يسعى لفرض رؤية معينة على الدولة الطاغوتية الحاكمة، نتيجة ظروف معينة حينذاك.

      رابعاً. ظهور عقيدة (ولاية الفقيه المطلقة) لأول مرّة في داخل التشيّع: من خلال ظهور كتاب الحكومة الاسلامية – والذي يتضمن مجموعة الدروس الفقهية التي القاها السيد الخميني على طلبة العلوم الدينية في النجف الاشرف تحت عنوان (ولاية الفقيه) في حوالي الفترة (20 كانون الثاني- 7 شباط) سنة 1970م - والذي أسس فيه نظرية ولاية الفقيه المطلقة ذات الاساس العقائدي، والذي اعطى بموجبها صلاحية للفقيه العادل في إقامة السلطة الدينية كما اعطته نفس وظيفة المعصوم (عليه السلام) ضمن المساحة العقائدية للمذهب. وهي النظرية التي كان لها صداها الواسع في العالم الاسلامي فيما بعد، ولا نشك ان انتصار الثورة الاسلامية في ايران كان له وقعه الهائل والمهم على العالم الاسلامي بجميع مذاهبه.
      يقول السيد عبد الاعلى السبزواري:
      (ان عقيدة الإمامية ان الفقيه الجامع للشرائط يقوم مقام الإمام في كل ماله من المناصب و الجهات إلا مختصات الإمامة كالعصمة و نحوها)[17].
      وهذا النص ينقل ولاية الفقيه المطلقة في فكر السيد السبزواري من الناحية الفقهية الى الناحية العقائدية ! وهذا هو المستفاد من كتاب (الحكومة الاسلامية) للسيد الخميني، ومما جاء فيه قول السيد الخميني ببداهة ولاية الفقيه، يقول:
      (ولاية الفقيه فكرة علمية واضحة، قد لا تحتاج الى برهان، بمعنى ان من عرف الاسلام، احكاماً وعقائد، يرى بداهتها. ولكن وضع المجتمع الاسلامي، ووضع مجامعنا العلمية على وجه الخصوص، يضع هذا الموضوع بعيداً عن الاذهان، حتى لقد عاد اليوم بحاجة الى البرهان)[18].
      ويقول سيد كمال الحيدري:
      (أن كل من قال بهذه الولاية العامة يعني الولاية الدينية يعني الولاية الشرعية في عصر الغيبة الكبرى ادعى عليها الإجماع, الآن ما أريد أن أتكلم هذا الإجماع منقول محصل حجة أو ليس بحجة, أريد أن أشير فقط: والمدعي له ليس أناس عاديين يقول كل كلمات علمائنا تسير باتجاهه, إذن هذا الرأي من الآراء الشاذة أو من الآراء المشهورة بين فقهاء الإمامية أي منهما؟ قلت لك: ما أريد أن أتكلم إجماع بالمعنى المصطلح حجة أو ليس بحجة؟ منقول أو محصل؟ تعبدي أو ليس بتعبدي ليس حديثي هذا, حديثي في أنه كلمات فقهاء الإمامية الكل هكذا يدعون. أنظر إلى ما يقوله صاحب عوائد الأيام, في (عوائد الأيام, المحقق النراقي في ص188, في تحديد ولاية الفقيه) يقول: [أما الأول] أي الأول؟ يعني المطلب الأول وهو أنه كان له كل ما كان للنبي والإمام إلا ما خرج بالدليل [وأما الأول فالدليل عليه بعد ظاهر الإجماع حيثُ نص به كثيرٌ من الأصحاب بحيث يظهر منهم كونه من مسلّمات عقيدة الإمامية] عزيزي التفتوا إلى هذه القضية, وهذا الكلام وجدته من المعاصرين الحق والإنصاف لا يخفى, من المعاصرين وجدت من أشار إليه الفقيه الذي اعتقد بفقاهته لأنه مفسّر, وهو السيد السبزواري, أنا أعتقد بذوق السيد السبزواري لسببٍ أو واحدة من الأسباب, أولاً: مفسّر, وثانياً: له إطلاع جيد على المباني الأخرى الكلامية وغيرها جيد, أنظروا ماذا يقول في (مهذب الأحكام, ج16, ص367) التفتوا يقول: [إن عقيدة الإمامية] عجيب, مولانا هذا رأي شاذ لم يقل به إلا السيد الخميني, يقول لا, ماذا يعني قول شاذ, عقيدة الإمامية هذا, ما هو؟ [أن الفقيه الجامع للشرائط يقوم مقام الإمام في كل ما له من المناصب والجهات إلا مختصات الإمامة كالعصمة] انتهى وإلا كلها لمن انتقلت؟ والعجيب يقول هذه ماذا؟ عقيدة الإمامية, هذه من عقائد الإمامية ولذا كاملاً ينسجم مع كلام المحقق النراقي الذي يقول يُعد من المسلمات عند الإمامية, ولكن مع الأسف الشديد انظروا ماذا يفعل الإعلام الذي الآن في الحوزات العلمية البعض يتصور أن المسلم ما هو؟ نظرية السيد الخوئي وأنه القائل بالولاية كأنه هو في أقل الأقلية)[19].
      ويقول الشيخ محمد هادي معرفة:
      (كانت مسألة ولاية الفقيه من أسس المسائل الاسلامية العريقة والتي تقع امتداداً لمسألة الولاية الكبرى، مسالة الامامة بعد عهد الرسالة. وللعلماء الكبار جهود جبارة حول المسالة أشادوها بجد منذ أن وقعت الغيبة الكبرى سنة 329هـ)[20].

      وهناك نظريات أخرى كان يمكن ان تشكل انعطافات او متغيرات مهمة غير انه لم تتوفر لها العوامل التي تساعدها في الانتشار، منها نظرية الشيخ محمد مهدي شمس الدين القائلة بـ: (ولاية الامة على نفسها) سنة 1992م. غير ان هذه النظرية لم تأخذ الشهرة والاتساع في التطبيق، لأسباب موضوعية عديدة، منها ان الشيخ محمد مهدي شمس الدين (رحمه الله) لم يكن مرجع تقليد، كما ان الاسس الفقهية لنظريته لم تلق القبول لدى كبار علماء الشيعة وبقيت نظرية الحسبة هي السائدة في الاجواء العلمية الشيعية، الى جانب نظرية ولاية الفقيه العامة (فقهية المستند) ونظرية ولاية الفقيه المطلقة (عقائدية المستند).

      تعليق


      • #4
        ج4


        دور فقهاء الشيعة في ظل غياب السلطة:
        أمّا لو حدث فراغ سياسي وانهارت السطة التي تحكم بلاد المسلمين والمجتمع الاسلامي، كما حدث حين غزو المغول لبغداد وانهيار الخلافة العباسية، وكذلك أيام الاحتلال الانكليزي وخروج العراق من عباءة الخلافة العثمانية، وكذلك ايام الاحتلال الامريكي للعراق سنة 2003م، نجد ان فقهاء الشيعة يسعون لمليء الفراغ وحسب الظروف والادوات المتاحة، وهدفهم واحد وهو الحفاظ على وجود الاسلام وسيادته وصبغته في المجتمع، والحفاظ على المظاهر الاسلامية ولو بحدها الادنى، بحسب الظروف السياسية والاجتماعية الموجودة. وحتى لو اضطر الشيعة لتأسيس دولة والاشتراك في ايجاد سلطة من اجل التخلص من الاحتلال الاجنبي الكافر، كما حصل بعد الاحتلالين الانكليزي سنة 1917م والامريكي سنة 2003م، وكما في نهج البلاغة: ((وانه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر)).
        وفي كثير من الاحيان يتخذ الفقيه خطوات شرعية متنوعة بحسب الظروف التي تمر بالبلد والمجتمع، حيث في الكثير من الاحيان هناك عناوين ثانوية ومصالح وتفرعات واقعية يراعيها الفقيه من قبيل رعاية مصالح المؤمنين وضمان امنهم وعيشهم المشترك مع الفئات الأخرى من ابناء الشعب، حيث في الكثير من الاحيان تكون الظروف السائدة هي الحاكمة فيما يجب على الفقيه انتهاجه. ومن امثلة هذا الامر موقف المرجع العام للشيعة السيد اليزدي (رضوان الله عليه) ايام الاحتلال الانكليزي للعراق، فبعدما كان من دعاة المشروعة ايام الحكم القاجاري وفي ظروف التسلط العثماني على العراق، نجده يتحول في ظروف غياب السلطة المسلمة ووجود قوات احتلال كافرة الى دعاة تأسيس سلطة قائمة على الانتخابات. حيث يذكر حسن الاسدي في كتابه (ثورة النجف على الانكليز) انه بعد عدّة إجتماعات أيام الاحتلال الانكليزي للعراق تم الاتفاق وبإشارة من السيد اليزدي (قده) على مضبطة تطالب بحكومة مستقلة إستقلالاً تاماً ناجزاً برئاسة ملك عربي مقيد بدستور ومجلس تشريعي منتخب[21].
        وكذلك نجد ان السيد الخوئي (رضوان الله عليه) الذي لا يرى ولاية الفقيه، يسعى جاهداً لتأسيس لجنة تدير شؤون المجتمع في الانتفاضة الشعبانية المباركة سنة 1991م في جنوب العراق استناداً الى الحسبة. ولكن هذا التأسيس لا يلجأ اليه، فيما يبدو، الا في ظروف خلو الساحة السياسية، لسبب ما، من وجود النظام الحاكم، كما حدث أيضاً حين سقوط النظام الصدامي البائد واحتلال قوات التحالف الامريكي- البريطاني للعراق سنة 2003م. ولهم في كل ذلك مستندهم الفقهي الذي قد يكون متعلقاً بحفظ نظام وامن الناس وعيشهم ومصالحهم وحقوقهم. وللفقيه حينئذٍ رأيه في طبيعة السلطة التي سيقيمها، ولا يشترط فيها ان يكون الفقيه على رأسها بل قد يلجأ الى نفس النظرية الانتخابية حيث تكون السلطة للشعب مع الحفاظ على الاسس والثوابت الدينية التي تحقق سيادة الاسلام وصبغته.

        صلاحيات الفقيه للنهوض بالحاكمية الدينية:
        تدور صلاحيات الفقيه للحفاظ على وجود الاسلام وسيادته حول: الحسبة، وولاية الفقيه المحدودة، وولاية الفقيه العامة، وولاية الفقيه المطلقة. ونحن نصطلح في بحثنا هذا مصطلح (ولاية الفقيه العامة) ونقصد بها ولاية الفقيه الواسعة التي جاء بها الشيخ احمد النراقي في كتابه عوائد الايام، وهي ولاية مستندة الى استنباط فقهي. كما نصطلح مصطلح (ولاية الفقيه المطلقة) ونقصد بها ولاية الفقيه الواسعة التي ذكرها السيد الخميني في كتابه (الحكومة الاسلامية)، وهي ولاية مستندة الى اسس عقائدية لأول مرّة في تاريخ الشيعة. اما في الفقه الشيعي فلا يتم اعتماد هذين المصطلحين بالمعنى الذي ذكرناه، فقد يذكرون (ولاية الفقيه المطلقة) ويقصدون بها (ولاية الفقيه العامة) كما في احد النصوص التي سنذكرها بعد قليل للسيد الخوئي (رضوان الله عليه). فهذا التقسيم من عندنا لتسهيل الاطلاق والإفهام.

        الحسبة في الفقه الشيعي:
        يقول السيد محمد بحر العلوم:
        (ولاية الحسبة التي هي بمعنى القربة، المقصود منها التقرب بها الى الله تعالى، وموردها كل معروف علم إرادة وجوده في الخارج شرعاً من غير موجد معين. فهو من قبيل ما كان فيه ولاية الفقيه، غير أنه متعذر الوصول له حتى يرجع إليه. وثبوتها في مواردها مدلول عليه بالكتاب عموماً، نحو قوله تعالى: "واحسنوا إن الله يحب المحسنين" وقوله"ما على المحسنين من سبيل" بعد معلومية كونه إحسانا، والسنة المستفيضة عموماً كقوله صلى الله عليه وآله: "عون الضعيف من أفضل الصدقة" ونحوه، وخصوصاً، كما ستعرف، والاجماع بقسميه محصلاً ومنقولاً فوق حد الاستفاضة، بل وبضرورة العقل الحاكم بوجوب حفظ النظام. فمن الموارد المنصوص عليه بخصوص: ولاية عدول المؤمنين فيما لم يكن أب ولا جد ولا وصي ولا حاكم أن يأتوا بما للأب والجد فيه الولاية او الحاكمن مع عدم لزوم المباشرة. ضرورة تقدمهم عليهم إن وجدوا نصاً وفتوى، بل ضرورة، لما رواه في (الكافي) في الصحيح: عن محمد بن اسماعيل بن بزيع قال: مات رجل من أصحابنا ولم يوص، فرفع أمره الى قاضي الكوفة، فصير عبد الحميد القيم بماله وكان الرجل خلف ورثة صغاراً ومتاعاً وجواري، فباع عبد الحميد المتاع، فلما اراد بيع الجواري ضعف قلبه في بيعهن، إذ لم يكن الميت صير إليه وصيته، وكان قيامه بهذا بأمر القاضي، لأنهن فروج، فذكرت ذلك لأبي جعفر عليه السلام، فقلت له: يموت الرجل من أصحابنا ولم يوص الى أحد ويخلف الجواري فيقيم القاضي رجلاً منا ليبيعهن، أو قال: يقوم بذلك رجل منا فيضعف قلبه لأنهن فروج. فما ترى في ذلك القيم؟ قال فقال: إذا كان القيم مثلك أو مثل عبد الحميد فلا بأس")[22].

        ويقول الآملي في تقريرات استاذه الشيخ النائيني:
        (وهناك أمور يشك في كونها من وظائف الوالي أو القاضي وذلك كالتصرف في أموال الايتام والمجانين وحفظ أموال الغائبين وغير ذلك من الامور الحسبية مما هو في هذه الاعصار جعل في القوانين العرفية من وظائف مدعي العموم فإنه يشك في كونه من وظيفة الولاة أو من وظيفة القضاة)[23].

        ويتحدث سيد كمال الحيدري عن الحسبة وموقف السيد الخوئي منها ومن ولاية الفقيه المطلقة فيقول:
        (أن ما نقوله من الأمور الحسبية للفقيه هذا ليس من الولاية في شيء, هذه نقطة مهمة التفتوا جيداً, هذا الذي أنا صرحت به وقلت مسألة الأمور الحسبية. أعزائي التفتوا إلى هذه الجملة واحفظوها وتأملوا فيها بعد ذلك, فرقٌ بين أن يأمر الشارع بشيء وهذا إذا دل الدليل, وبين أن يرضى الشارع بشيء, الأمور الحسبية من ماذا؟ مما يرضى بها الشارع لا مما أمر بها الشارع, ونحن محل النزاع عندنا أين؟ فيما أمر به الشارع, فرق كبير الشارع قد لا يأمر بكثير من الأشياء ولكن إذا قمت بها ماذا يقول؟ يقول جزاك الله خير عمل جيد,،، الآن كثير من القوانين التي توضع في بلاد الغرب أو في البلاد غير الإسلامية لو تسأل الشارع يقول لا, لا أمر بها, ولكن لو قام بها جيد جزاهم الله خيراً عمل جيد, الأمور الحسبية ليست مما أمر بها الشارع بل إذا قام بها البعض رضي بها الشارع).
        ... (السيد الخوئي يعتقد له الولاية ولكن هذه الولاية ليست ولاية شرعية هذه ولاية عبروا عنها عقلائية, عبروا عنها اجتماعية عبروا عنها ما تشاء, ولكن هذه ليست بتفويض من الشارع, لا علاقة لها. ولذا هناك قال: [أما الولاية فلا] أي ولاية؟ هذه الولاية الشرعية التي جاءت من الإمام هذه ليست ثابتة, هنا أيضاً يقول, يقول: [فإن الفقيه له الولاية في ذلك] يعني على أمور القصّر والأمور الحسبية [لا بالمعنى المُدعى] يعني ليس بالمعنى الشرعي الذي جاءنا من الشارع [بل بمعنى نفوذ تصرفاته] لماذا؟ باعتبار أن هذا القضايا, أعزائي أنا من باب المثال أقربه, مثل رئيس البلدية إذا وجد طريقاً مغلق الأمور الحسبية ماذا يقتضي عليه؟ ماذا يفعل؟ أنت الآن مشيت في مكان ووجدت بينك وبين الله طريق مغلق الناس كذا, طيب تفتح الطريق, هذه ليس بمعنى أن الشارع أمرك بل لأنه أمر تنظيمي وهذا ليس فقط أنت تفعله حتى الذي لا يعتقد بالله في الصين أيضاً ماذا يفعل؟ إذا وجده يرفعه انتهت المشكلة, هذه يعملها باعتبار أن الشارع أمره وأعطاه الولاية الشرعية؟ لا أبداً, أما بخلاف النظرية الأولى تقول أن الشارع أمرك إن لم تقم بهذا العمل فأنت مؤآخذ يوم القيامة, تعاقب عليه يوم القيامة. يقول: [بل بمعنى نفوذه .. كما أن الأصل عدم نفوذه وبما ذكرنا..] إلى آخره. هذا الأعزة بودي اليوم هذا البحث الأخوة يذهبون ويطالعوه ولا يترك هكذا)[24].
        وهذا الذي اشارة اليه سيد كمال من ان الحسبة هي (ما يرضى الشارع بفعلها) هو مفهومه للحسبة، اما بقية العلماء فقد يرون ان الحسبة هي ما لا يرضى الشارع المقدس بتركها. او كما يقول السيد الخميني:
        (وهي التي علم بعدم رضا الشارع الأقدس بإهمالها)[25].
        ويقول الشيخ منتظري:
        (والظاهر ان مراده بالقسم الثاني هي الأمور المهمة المعبر عنها في كلماتهم بالأمور الحسبية التي لا يرضى الشارع بإهمالها في أي ظرف من الظروف)[26].
        ويقول السيد الگلپايگاني:
        (والمراد من الحسبة هو الأمور التي لا بد من إقامتها وحفظها والاهتمام بأمرها ، والشارع لا يرضى بتركها واهمالها ، فيجب على كل من قدر على ذلك من المكلفين إقامة ذلك نهيا عن المنكر ، وما مر من استحباب تركها ، لعله فيما كان بقدر الكفاية موجودا)[27].
        ونجد السيد الخوئي (رضوان الله عليه) يجمع بين الامرين، أي ان الحسبة هي ما يرضى الشارع بفعله ولا يرضى بإهماله، فيقول:
        (ومعنى الحسبة اتيان الأمر من باب كونه أمرا قربيا ، بحيث إن الشارع يرضى بذلك ولا يرض بحيفه ، فيؤتي ذلك حسبة إلى قربة إلى الله ، ومن باب كونه مطلوبا للشارع ، ويكون حفظه محبوبا)[28].
        اي ان الحسبة في كلام ومفهوم علمائنا هي ما يرضى الشارع بفعله وعدم رضاه بإهماله. وليس فقط كما صوره سيد كمال الحيدري.
        ويربط السيد الخميني بين إقامة الحسبة وإقامة حكومة عادلة إسلامية، فيقول:
        (حكم الأمور الحسبية ثم إن الأمور الحسبية - وهي التي علم بعدم رضا الشارع الأقدس بإهمالها - إن علم أن لها متصديا خاصا أو عاما فلا كلام . وإن ثبت أنها كانت منوطة بنظر الإمام (عليه السلام)، فهي ثابتة للفقيه بأدلة الولاية . ومع الغض عنها ، لو احتمل أن إجراءها لا بد وأن يكون بنظر شخص كالفقيه العادل، أو الشخص العادل، أو الثقة، فاللازم الأخذ بالمتيقن، وهو الفقيه العادل الثقة ، وإن تردد بين المتباينين لا بد وأن تجرى بنظرهما . ولا يخفى: أن حفظ النظام ، وسد ثغور المسلمين ، وحفظ شبانهم من الانحراف عن الإسلام، ومنع التبليغ المضاد للإسلام ونحوها ، من أوضح الحسبيات ، ولا يمكن الوصول إليها إلا بتشكيل حكومة عادلة إسلامية . فمع الغض عن أدلة الولاية ، لا شك في أن الفقهاء العدول هم القدر المتيقن، فلا بد من دخالة نظرهم ، ولزوم كون الحكومة بإذنهم ، ومع فقدهم أو عجزهم عن القيام بها، يجب ذلك على المسلمين العدول ، ولا بد من استئذانهم الفقيه لو كان . ثم إن ما ذكرنا: من أن الحكومة للفقهاء العدول ، قد ينقدح في الأذهان الإشكال فيه : بأنهم عاجزون عن تمشية الأمور السياسية والعسكرية وغيرها . لكن لا وقع لذلك بعد ما نرى أن التدبير والإدارة في كل دولة بتشريك مساعي عدد كبير من المتخصصين وأرباب البصيرة ، والسلاطين ورؤساء الجمهوريات من العهود البعيدة إلى زماننا - إلا ما شذ منهم - لم يكونوا عالمين بفنون السياسة والقيادة للجيش ، بل الأمور جرت على أيدي المتخصصين في كل فن . لكن لو كان من يترأس الحكومة شخصا عادلا ، فلا محالة ينتخب الوزراء والعمال العدول ، أو صحيحي العمل ، فيقل الظلم والفساد والتعدي في بيت مال المسلمين، وفي أعراضهم ونفوسهم . كما أنه في زمان ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يجر جميع الأمور بيده الشريفة، بل كان له ولاة وقضاة ورؤساء للجيش ونحوهم ، والآن ترى أن تمشية الأمور السياسية أو العسكرية وتنظيم البلاد وحفظ الثغور كل موكولة إلي شخص أو أشخاص ذوي الصلاحية بنظرهم)[29].
        فالسيد الخميني يرى تشكيل (حكومة عادلة إسلامية) للقيام بشؤون الحسبة، ولكنه لا يشترط هنا ان تكون تلك الحكومة بزعامة الفقيه العادل بل يكفي أن تكون بإذنه... "ومع فقدهم أو عجزهم عن القيام بها ، يجب ذلك على المسلمين العدول ، ولا بد من استئذانهم الفقيه لو كان". فالمهم عنده هو أن تقوم شؤون الحسبة، أي بمعنى آخر قيام الحاكمية الدينية في بلاد المسلمين. فعلى سبيل المثال تكون سلطة الشاه طهماسب الصفوي سلطة دينية شرعية لأنها قامت بإذن الفقيه المحقق الكركي، حيث تم تسليم المحقق الكركي مقاليد الحاكمية الدينية لإقرارها في مفاصل الدولة والمجتمع.
        وكما هو ظاهر فإنَّ الحسبة لها ارتباط وثيق بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول الميرزا علي أصغر مرواريد:
        ("كتاب الحسبة": يجب الأمر بالمعروف الواجب والنهي عن المنكر بشروط ستة : التكليف ، والعلم بجهة الفعل ، وإمكان التأثير ، وانتفاء المفسدة ، وأن يكون المعروف مما سيقع والمنكر مما سيترك ، وعدم ظن مقام الغير مقامه على الأقوى ، وبعض هذه شروط الجواز ، ومدرك وجوبهما العقل والنقل ، ولا يلزم وجوبهما على الله تعالى بمعنى يحصل معه أثرهما حذرا من الإلجاء . ويستحب الأمر بالمندوب والنهي عن المكروه ، وطريق الأمر والنهي : التدرج فالإعراض ثم الكلام اللين ثم الخشن ثم الأخشن ثم الضرب غير المبرح ثم المبرح ، أما الجرح والقتل فالأقرب تفويضهما إلى الإمام . ويجب بالقلب وجوبا مطلقا ، ويكفي في سقوط إظهارهما ظن الضرر على المباشر أو على بعض المؤمنين نفسا أو مالا ، وحينئذ الأقرب التحريم ، ولو لم يجوز التأثير وأمن الضرر جاز الإنكار قطعا ، ولو لاح من المتلبس أمارة الندم حرم قطعا . والحدود والتعزيرات إلى الإمام ونائبه ولو عموما ، فيجوز في حال الغيبة للفقيه - الموصوف بما يأتي في القضاء - إقامتها مع المكنة ، ويجب على العامة تقويته ، ومنع المتغلب عليه مع الإمكان ، ويجب عليه الإفتاء مع الأمن وعلى العامة المصير إليه والترافع في الأحكام فيعصي مؤثر المخالف ويفسق ، ولا يكفي في الحكم والإفتاء التقليد . ولا يجوز تولي القضاء من قبل الجائر إلا مع الإكراه أو التمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولو أكره على الحكم أو الإفتاء بغير حق أجاب إلا في القتل ، وفي إجراء الجرح مجراه خلاف ، قطع الشيخ في الكلام بأنه كالقتل في عدم جوازه بالإكراه)[30].
        وقال الشيخ محمد بن مكي العاملي المعروف بالشهيد الاول (توفي 786هـ)، في مؤلفه (الدروس الشرعية في فقه الامامية)، في فصل (كتاب الحسبة) ما نصّه:
        (يجب الامر بالمعروف الواجب والنهي عن المنكر بشروط ستة: التكليف، والعلم بجهة الفعل، وإمكان التأثير، وانتفاء المفسدة، وأن يكون المعروف مما سيقع والمنكر مما سيترك، وعدم ظن قيام الغير مقامه على الأقوى، وبعض هذه الشروط الجواز)[31].

        ولاية الفقيه العامة وموقف فقهاء الشيعة منها:
        ولاية الفقيه العامة فقهية الاستنباط، وهي التي ذكرها الشيخ احمد النراقي في كتابه عوائد الايام وكذلك الشيخ صاحب الجواهر (رضوان الله عليهما).
        ومما كتبه الشيخ احمد النراقي في عوائد الايام، بعد ذكره الروايات التي تعضد فكرته في ولاية الفقيه:
        (المقام الثاني: في بيان وظيفة العلماء الأبرار والفقهاء الأخيار في أمور الناس، وما لهم فيه الولاية على سبيل الكلية، فنقول وبالله التوفيق: إن كلية ما للفقيه العادل توليه وله الولاية فيه أمران: أحدهما: كل ما كان للنبي والامام - الذين هم سلاطين الأنام وحصون الاسلام - فيه الولاية وكان لهم، فللفقيه أيضا ذلك، إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما. وثانيهما: أن كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم ولابد من، الاتيان به ولا مفر منه، إما عقلا أو عادة من جهة توقف أمور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة عليه، وإناطة انتظام أمور الدين أو الدنيا به. أو شرعا من جهة ورود أمر به أو إجماع، أو نفي ضرر أو إضرار، أو عسر أو حرج، أو فساد على مسلم، أو دليل آخر. أو ورود الاذن فيه من الشارع ولم يجعل وظيفته لمعين واحد أو جماعة ولا لغير معين - أي واحد لا بعينه - بل علم لا بدية الاتيان به أو الاذن فيه، ولم يعلم المأمور به ولا المأذون فيه، فهو وظيفة الفقيه، وله التصرف فيه، والآتيان به. أما الأول: فالدليل عليه بعد ظاهر الاجماع - حيث نص به كثير من الأصحاب، بحيث يطهر منهم كونه من المسلمات - ما صرحت به الاخبار المتقدمة من كونه وارث الأنبياء، وأمين الرسل، وخليفة الرسول، وحصن الاسلام، ومثل الأنبياء وبمنزلهم، والحاكم والقاضي والحجة من قبلهم، وأنه المرجع في جميع الحوادث، وأن على يده مجاري الأمور والاحكام، وأنه الكافل لأيتامهم الذين يراد بهم الرعية. فإن من البديهيات التي يفهمها كل عامي وعالم ويحكم بها: أنه إذا قال نبي لاحد عند مسافرته أو وفاته: فلان وارثي، ومثلي، وبمنزلتي، وخليفتي، وأميني، وحجتي، والحاكم من قبلي عليكم، والمرجع لكم في جميع حوادثكم، وبيده مجاري أموركم وأحكامكم، وهو الكافل لرعيتي، أن له كل ما كان لذلك النبي في أمور الرعية وما يتعلق بأمته، بحيث لا يشك فيه أحد، ويتبادر منه ذلك.
        كيف لا؟ مع أن أكثر النصوص الواردة في حق الأوصياء المعصومين، المستدل بها في مقامات إثبات الولاية والإمامة المتضمنين لولاية جميع ما للنبي فيه الولاية، ليس متضمنا لأكثر من ذلك، سيما بعد انضمام ما ورد في حقهم: أنهم خير خلق الله بعد الأئمة، وأفضل الناس بعد النبيين، وفضلهم على الناس كفضل الله على كل شئ، وكفضل الرسول على أدنى الرعية.
        وإن أردت توضيح ذلك: فانظر إلى أنه لو كان حاكم أو سلطان في ناحية وأراد المسافرة إلى ناحية أخرى، وقال في حق شخص بعض ما ذكر فضلا عن جميعه، فقال: فلان خليفتي، وبمنزلتي، ومثلي، وأميني، والكافل لرعيتي، والحاكم من جانبي، وحجتي عليكم، والمرجع في جميع الحوادث لكم، وعلى يده مجاري أموركم وأحكامكم.
        فهل يبقى لاحد شك في أن له فعل كل ما كان للسلطان في أمور رعية تلك الناحية؟ إلا ما استثناه، وما أظن أحدا يبقى له ريب في ذلك، ولا شك ولا شبهة. ولا يضر ضعف تلك الأخبار بعد الانجبار بعمل الأصحاب، وانضمام بعضها ببعض، وورود أكثرها في الكتب المعتبرة.
        وأما الثاني: فيدل عليه بعد الاجماع أيضا أمران:
        أحدهما: أنه مما لا شك فيه أن كل أمر كان كذلك لابد وأن ينصب الشارع الرؤف الحكيم عليه واليا وقيما ومتوليا، والمفروض عدم دليل على نصب معين، أو واحد لا بعينه، أو جماعة غير الفقيه. وأما الفقيه، فقد ورد في حقه ما ورد من الأوصاف الجميلة والمزايا الجليلة، وهي كافية في دلالتها على كونه منصوبا منه.
        وثانيهما: أن بعد ثبوت جواز التولي له، وعدم إمكان القول بأنه يمكن أن لا يكون لهذا الامر من يقوم له، ولا متول له، نقول: إن كل من يمكن أن يكون وليا ومتوليا لذلك الامر ويحتمل ثبوت الولاية له، يدخل فيه الفقيه قطعا من المسلمين أو العدول أو الثقات، ولا عكس، وأيضا كل من يجوز أن يقال بولايته يتضمن الفقيه. وليس القول بثبوت الولاية للفقيه متضمنا لثبوت ولاية الغير، سيما بعد كونه خير خلق الله بعد النبيين، وأفضلهم، والأمين، والخليفة، والمرجع، وبيده الأمور، فيكون جواز توليه وثبوت ولايته يقينيا، والباقون مشكوك فيهم، تنفى ولايتهم وجواز تصرفهم النافذ بالأصل المقطوع به، وكذا الوجوب الكفائي فيما يثبت الامر به ووجوبه).
        ... (ويدل على المطلوب أيضا أخبار أخر كثيرة: كالمروي في الأمالي بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يرفع الله - أي بالعلم - أقواما، فيجعلهم في الخير قادة، .( تقتبس آثارهم، ويهتدى بفعالهم، وينتهي إلى آرائهم والمروي في عوالي اللآلي عن بعض الصادقين عليه السلام: (إن الناس أربعة: رجل يعلم، وهو يعلم أنه يعلم، فذاك مرشد حاكم فاتبعوه) ورواية محمد بن مسلم، المروية في الكافي، وفيها: (فتعلموا العلم من حملة العلم) والمروي في الاحتجاج عن مولانا الكاظم عليه السلام أنه قال: (فقيه واحد ينقذ يتيما من أيتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف عابد). وفيه أيضا عن أبي محمد العسكري عليه السلام: (فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه). ويدل عليه أيضا: مفاهيم الأخبار المستفيضة الناهية عن الافتاء بغير علم، ومن غير العلم بالناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والمبينة لصفات المفتي، وأمر الأئمة بعض أصحابهم بالافتاء، وأمر الناس بالرجوع إليهم.
        والاخبار المتكثرة المتضمنة: لان الله سبحانه لا يدع الأرض خالية من عالم يعرف الناس حلالهم وحرامهم، ولئلا تلتبس عليهم أمورهم، كما في رواية عبد الله العامري عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: ما زالت الأرض إلا ولله فيها الحجة يعرف الحلال والحرام ويدعو إلى سبيل الله. والمروي في إكمال الدين عنه عليه السلام أيضا، قال: (إن الله تبارك وتعالى لم يدع الأرض إلا وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان، ولولا ذلك لالتبست على المؤمنين أمورهم).
        والحجة والعالم فيهما لا يحملان على الامام المعصوم الغائب; لأنه لا يعرف الناس مسائلهم، ولا يدعوهم إلى سبيل الله، ولا يبين لهم أمورهم.
        ويدل على المطلوب أيضا: الاجماع القطعي، بل الضرورة، الدينية، بل ضرورة جميع الأديان، فإن الكل قد أجمعوا على إفتاء العلماء للعوام، وعلى ترك الانكار في تقليد غير العلماء لهم من غير مانع لهم من الانكار، بل ترغيبهم عليه وذمهم على تركه.
        بل هذا أمر واضح لكل عامي حتى النسوان والصبيان; لأنهم يرجعون فيما لا يعلمون إلى العلماء. وليس علم كل عامي بأن ما لا يعلمه من أحكام الله يجب أخذه من العالم، أضعف من علمه بوجوب الصلاة وكونها مثلا أربع ركعات.
        ويدل عليه أيضا: أنه لا شك أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مبعوث إلى العالم والعامي، وليس بعثه مقصورا على العلماء، وأن أحكامه مقررة للفريقين من غير تفرقة بينهما. ولا شك أيضا أنه لم يقرر هذه الأحكام لكل أحد حتى من لم يتمكن من الوصول إليها وتحصيلها بعد السعي والاجتهاد، ولم يخصصها أيضا بمن وصلت إليه هذه الأحكام من دون سعي وفحص. بل أتى بها وأمر بالفحص عنها فحصا تاما، بمعنى أنا أمرنا بالفحص عن أحكام الرسول; بل وجوب هذا الفحص مما يحكم به العقل القاطع، فمن وصل إليه بعد الفحص فهو حكمه، وإلا فهو معذور، فكل من العلماء والعوام بالفحص مأمور، وفي تركه غير معذور. ثم إن الفحص تارة يكون بالفحص عن مأخذها ومداركها واستنباطها منها بعد فهم المراد منها، وعلاج معارضتها، ورفع اختلالاتها، ورفع شبهاتها، ونحو ذلك. وأخرى بالفحص عمن فعل ذلك. ومن البديهيات القطعية: أن أمر غير العلماء في زمان من الأزمنة بالفحص بالطريق الأول يوجب العسر الشديد والحرج العظيم واختلال أمر المعاش وتعطيل أكثر الأمور، سيما بعد مرور الدهور. فغير العلماء الذين يسهل لهم الاجتهاد ينحصر طريق فحصهم - المكلفين به في جميع الأزمنة - بالسؤال عمن فحص بالطريق الأول، فيكون واجبا عليه)[32].
        والظاهر من هذا النص وبقية ما سطّره الشيخ احمد النراقي في كتابه عوائد الايام انه جمع بين الادلة العقلية والاستنتاجات المنطقية التي اعتمد عليها ايضا دعاة القائلين بولاية الفقيه المطلقة العقائدية، وبين الروايات التي يرى انها تدل عليها. ولكنّه سخّر ذلك كله للقول بإستنباط فقهي لولاية الفقيه العامة ولم يذكر انها عقائدية المنبع او المستند.
        وكان السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه) يذهب الى ولاية الفقيه العامة، فيما يبدو، إذ يقول الشيخ يعقوب علي برجي عن السيد الصدر ما يفيد انه يعتمد الاستنباط الفقهي لولاية الفقيه العامة حيث كتب بخصوصه:
        (وكتب في جوابه عن تساؤلات حول الأدلة على ولاية الفقيه: «هناك روايات أخرى عديدة، غير أنّ ما نعتمد عليه هو التوقيع، خاصّة في إثبات الولاية العامّة)[33].
        وفي مقدمة المعارضين لـ (ولاية الفقيه العامة) فقهية الاستنباط هو الشيخ الاعظم مرتضى الانصاري (رضوان الله عليه) حيث قال بعد بحثه رؤية أستاذه الشيخ احمد النراقي فانتقدها بشدة في كتابه "المكاسب" وقال عن الروايات المستدل بها على ولاية الفقيه على فرض صحتها:
        (لكن الإنصاف بعد ملاحظة سياقها أو صدرها أو ذيلها يقتضي الجزم بأنها في مقام بيان وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعية, لا كونهم كالنبي والأئمة صلوات الله عليهم في كونهم أولى بالناس في أموالهم، فلو طلب الفقيه الزكاة والخمس من المكلف فلا دليل على وجوب الدفع إليه شرعاً).
        وانتهى إلى القول:
        (فإقامه الدليل على وجوب إطاعة الفقيه كالإمام إلا ما خرج بالدليل دونه خرط القتاد)[34].

        وكذلك السيد ابو القاسم الخوئي (رضوان الله عليه) حيث قال كما في (التنقيح في شرح العروة الوثقى)، كتاب الاجتهاد والتقليد:
        (إن ما استدل به على الولاية المطلقة[35] في عصر الغيبة غير قابل للاعتماد عليه)[36].
        وفي كتاب صراط النجاة سُئِلَ السيد الخوئي هذا السؤال: [هل هناك اجماع من علمائنا المراجع المتقدمين والمتأخرين على ولاية الفقيه؟ وضحوا لنا ليتبين لنا من سماحتكم حقيقة المسألة عند علمائنا الأعلام الذين أفتوا بولاية الفقيه في عصر غيبة قائم آل محمد (عج) الشريف؟]، فكان جوابه:
        { أما الولاية على الأمور الحسبية كحفظ أموال الغائب واليتيم إذا لم يكن من يتصدى لحفظها كالولي أو نحوه، فهي ثابتة للفقيه الجامع للشرائط وكذا الموقوفات التي ليس لها متولي من قبل الواقف والمرافعات، فإن فصل الخصومة فيها بيد الفقيه وأمثال ذلك، وأما الزائد على ذلك فالمشهور بين الفقهاء على عدم الثبوت، والله العالم}[37].
        وهناك فقهاء يرون الولاية للفقيه بحدود أدنى من الولاية العامة، واوسع من الحسبة. كما ان هناك فقهاء لا يرون للفقيه سوى صلاحية الحسبة – كما مرّ آنفاً رأي السيد الخوئي - ولكن هذه الصلاحية لها حدود واسعة جداً تصل الى درجة اعلان الجهاد الابتدائي. يقول السيد مرتضى الحكمي في مقدمته لموسوعة الامام الخوئي (رضوان الله عليه):
        [أمّا عن الولاية المطلقة للفقيه الجامع للشرائط، فيجيب الإمام الخوئي على ذلك بقوله: (في ثبوت الولاية المطلقة للفقيه الجامع للشرائط خلاف، ومعظم فقهاء الإماميّة يقولون بعدم ثبوتها. وإنّما تثبت في الأُمور الحسبيّة فقط). وهو وإن لم يرجِّح أحد القولين في هذا المقام، إلّا أنّه يوجب إقامة الحدود (حفظاً للنظام)، والحدود لا يمكن أن يقيمها إلّا الحاكم المبسوط اليد. ولا يتأتّى‏ََ ذلك بيسر إلّا بعد إقامة حكم إسلامي يقوى‏ََ على ذلك[38]. ولهذا نعرف مدى رأيه في اتّساع الأُمور الحسبيّة، وولاية الفقيه. ففي كتاب القضاء يصرِّح: (القضاء واجب كفائيّ، وذلك لتوقّف حفظ النظام المادي والمعنوي عليه). وفي مكان آخر يصرِّح أيضاً: (يجوز للحاكم الجامع للشرائط إقامة الحدود...إنّ إقامة الحدود إنّما شرّعت للمصلحة العامّة، دفعاً للفساد، وانتشار الفجور والطّغيان بين الناس. وهذا ينافي اختصاصه بزمان دون زمان. وليس لحضور الإمام دخل في ذلك قطعاً. فالحكمة المقتضية لتشريع الحدود تقتضي بإقامتها في زمان الغيبة، كما تقتضي بها زمان الحضور...). وعلى هذا الاتساع في ولاية الأُمور الحسبيّة تفرّد الإمام الخوئي بالقول في عصرنا الحاضر بوجوب الجهاد الابتدائي في عصر الغيبة: (...إنّ الظاهر عدم سقوط وجوب الجهاد في عصر الغيبة، وثبوته في كافّة الأعصار لدى توفّر شروطه...إنّا لو قلنا بمشروعيّة أصل الجهاد في عصر الغيبة فهل يعتبر فيها إذن الفقيه الجامع للشرائط أو لا؟ يظهر من صاحب الجواهر(قدّس سرّه)، اعتباره بدعوى‏ََ عموم ولايته بمثل ذلك زمن الغيبة. وهذا كلام غير بعيد...فإنّه يتصدّى لتنفيذ هذا الأمر من باب الحسبة، على أساس أنّ تصدِّي غيره يوجب الهرج والمرج، ويؤدِّي إلى عدم تنفيذه بشكل مطلوب كامل). وفي أهميّة حفظ النظام، وحتى في توقّفه على لزوم تعاطي حرفة الطبابة، يُفتي: (فإنّها وإن كانت واجبة بالعرض باعتبار توقّف النظام عليها، كسائر أنواع الحرف والصناعات الدخيلة في حفظ النظام...)، يجوز أخذ الأُجرة على الطّبابة، وإن كانت من الواجبات الكفائيّة، ضماناً لحقوق الفرد والمجتمع، وذلك لاستتباب النظام. ثمّ على أساس شمول هذه الولاية الحسبيّة أيضاً جميع الأُمور العامّة للمسلمين، السياسيّة منها، والاجتماعيّة، والدينيّة والجهاديّة والقضائيّة: قام الإمام الخوئي فيما قام به من إصدار أحكام سياسيّة، عُرِفَ بها. وولاية الحسبة كما عرّفها تلميذه ومقرِّره في التعليق على أبحاثه في الاجتهاد والتقليد (هي بمعنى القربة المقصود منها التقرّب إلى اللَّه تعالى، وموردها هي: كلّ معروف علم إرادة وجوده في الخارج شرعاً من غير موجد معيّن)].

        ويرى الشيخ الميرزا جواد التبريزي امكانية تولي الفقيه إدارة نظام البلاد من خلال (الولاية على الامور الحسبية بنطاقها الواسع) حيث يقول:
        (ذهب بعض فقهائنا إلى أن الفقيه العادل الجامع للشرائط نائب من قبل الأئمة عليهم السلام، في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل، والذي نقول به هو أن الولاية على الأمور الحسبية بنطاقها لواسع، وهي كل ما علم أن الشارع يطلبه ولم يعين له مكلفا خاصا، ومنها بل أهمها إدارة نظام البلاد وتهيئة المعدات والاستعدادات للدفاع عنها، فإنها ثابتة للفقيه الجامع للشرائط، يرجع في تفصيله إلى كتابنا (إرشاد الطالب) وكذا للفقيه القضاء في المرافعات وفصل الخصومات، والله العالم)[39].
        واجاب عن سؤال آخر حول نفس الموضوع:
        (الذي نقول به هو ثبوت الولاية للفقيه الجامع للشرائط في الأمور الحسبية بالمعنى الذي أشرنا إليه في جواب السؤال الأول كما أن له القضاء في المرافعات وفصل الخصومات)[40].
        هؤلاء الفقهاء جميعاً مهما تنوعت رؤيتهم الفقهية لولاية الفقيه والحسبة لكنهم متفقون جميعاً على ضرورة الحفاظ على الوجود الاسلامي في المجتمعات الاسلامية، وضرورة ان تكون الحاكمية للاسلام وان تخضع الدول والحكومات التي تحكم مجتمعات المسلمين للحاكمية الدينية وتلوي اعناقها لها، لأن الله أكبر، ولأن كلمة الله هي العليا. وقد سعى المراجع العظام اعلى الله مقام الراحلين منهم وحفظ الحاليين منهم، الى الذود عن حاكمية الاسلام، وتنوعت وسائلهم من أجل تمكين هذه الحاكمية في الضمائر والنفوس والمجتمع الاسلامي. ولا نسنتثني أحداً منهم، غير ان لكل منهم طريقته وأسلوبه وظروفه التي تحكم عمله من اجل بلوغ هذه الغاية الشريفة. وهو متفقون جميعاً على انه لا قيام للحاكمية الدينية الا بوجود الجماهير المؤمنة التي تنقاد لرؤية المرجعيات الدينية وفتاواها واحكامها وتجبر السلطات الطاغوتية مهما تفرعنت على الخضوع والاذعان لها.

        تعليق


        • #5
          ج5

          ولاية الفقيه المطلقة العقائدية:
          ان بحث ولاية الفقيه عند الشيخ احمد النراقي في كتابه عوائد الايام هو بحث فقهي، بينما بحث ولاية الفقيه عند السيد الخميني هو بحث كلامي عقائدي.
          يقول الشيخ جوادي آملي:
          (أخرج الإمام بحث ولاية الفقيه المظلوم من دائرة الفقه إلى موقعه الأصلي في علم الكلام، ثم أخد يتوسع به بالبراهين العقلية والكلامية، وقرنه بالبحوث الفقهية، فظهرت النتائج تترى)... (ولاية الفقيه هي استمرار لإمامة المعصوم، وكل ما هو موجود من أدلة عقلية بشأن النبوة العامة والإمامة العامة، موجود أيضاً، في زمن الغيبة، بشأن ولاية الفقيه. وهذا أمر يدخل في علم الكلام. وحين تبحث الولاية في علم الكلام، فإن هذا العلم يلقي بظله على الفقه، فتصبح النظرة إلى عموم الفقه منطلقة من علم الكلام. وما نراه في كثير من كتابات الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه وأحاديثه من تأكيد على أن النظرة الشمولية للدين تبين عدم فصل الدين عن السياسة، ناتج في الحقيقة من رؤيته الكلامية للفقه، فهو يدرس الفقه من خلال هذا المستوى الرفيع. إن معرفة الفقه مسألة كلامية، وليست مسلة فقهية. فنحن لا نرى في الفقه مسألة تبين الغرض منه... فمعرفة الفقه، والبحث بالشؤون الإلهية، ودراسة القانون الإلهي هي أمور يختص بها علم الكلام، وليس للفقه صلة بها. لقد أنجر إمام الأمة عدة أمور، هي أولاً: جعل ولاية الفقيه استمراراً للإمامة، ثانياً: وضع الإمامة والولاية في موضعهما الحقيقي في علم الكلام، ثالثاً: أسهم في تفتح شجرة الإمامة، رابعاً: جعلهما يلقيان بظلهما على جميع أبواب الفقه)[41].
          فحينما تكون ولاية الفقيه ذات مستند فقهي فلا يمكن إلا للفقيه مناقشة ادلتها، لأنه موضوع تخصصي، وما على المكلف سوى تقليد مرجعه فيها. واما إذا تحولت ولاية الفقيه الى البعد العقائدي، ونحن نعلم ان على كل مكلف ان يؤسس مفاهيمه العقائدية بحسب بحثه وتقريره هو، وانه لا يجوز التقليد في العقائد، فحينئذٍ يكون من حق المكلف مناقشة عقيدة ولاية الفقيه المطلقة.

          يتحدث السيد الخميني في بحثه عن ولاية الفقيه والمطبوع بأسم (الحكومة الاسلامية)، في المحاور التالية:
          أ‌. أدلة ضرورة تشكيل الحكومة.
          ب‌. نظام الحكم الاسلامي.
          وفي تفاصيل فقرات هذا الكتاب واستدلالاته يمكننا تشخيص ان الكتاب يعتبر ان الحق هو المزج بين امرين: الاول ضرورة وجود سيادة للاسلام في المجتمع والدولة، والثاني ضرورة وجود سلطة دينية. واعتبارهما شيء واحد، فلا تقوم احداهما الا وتقوم الاخرى معها. بينما التاريخ والتراث الشيعي في عصر الغيبة الكبرى منذ بدايته والى ظهور عقيدة ولاية الفقيه المطلقة سنة 1970م مبني على فصل الحاكمية عن الحكم.


          يقول السيد الخميني:
          (واذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فإنه يلي من امور المجتمع ما كان يليه النبي (ص) منهم، ووجب على الناس ان يسمعوا له ويطيعوا)، الى ان يقول: (وقد فوض الله الحكومة الاسلامية الفعلية المفروض تشكيلها في زمن الغيبة نفس ما فوضه الى النبي (ص) وامير المؤمنين (ع) من امر الحكم والقضاء والفصل في المنازعات، وتعيين الولاة والعمال، وجباية الخراج، وتعمير البلاد، غاية الامر ان تعيين شخص الحاكم الآن مرهون بمن جمع في نفسه العلم والعدل)[42].


          ويبين السيد الخميني الفرق بين وظيفة الولي الفقيه وبين مرتبة الامامة فيقول:
          (ولا ينبغي ان يساء فهم ما تقدم، فيتصور احد ان اهلية الفقيه للولاية ترفعه الى منزلة النبوة او الى منزلة الائمة لأن كلامنا هنا لا يدور حول المنزلة والمرتبة، وإنما يدور حول الوظيفة العملية. فالولاية تعني حكومة الناس، وادارة الدولة، وتنفيذ احكام الشرع، وهذه مهمة شاقة، ينوء بها من هو اهل لها من غير ان ترفعه فوق مستوى البشر. وبعبارة اخرى فالولاية تعني الحكومة والادارة وسياسة البلاد، وليست – كما يتصور البعض – امتيازاً او محاباة او اثرة، بل هي وظيفة عملية ذات خطورة بالغة)[43].



          ويقول السيد الخميني:
          (الشرع والعقل يفرضان علينا الا نترك الحكومات وشأنها. والدلائل على ذلك واضحة، فإن تمادي هذه الحكومات في غيها يعني تعطيل نظام الاسلام واحكامه. في حين توجد نصوص كثيرة تصف كل نظام غير اسلامي بأنه شرك، والحاكم أو السلطة فيه طاغوت. ونحن مسؤولون عن إزالة آثار الشرك من مجتمعنا المسلم، ونبعدها تماماً عن حياتنا. وفي نفس الوقت نحن مسؤولون عن تهيئة الجو المناسب لتربية وتنشئة جيل مؤمن فاضل يحطم عروش الطواغيت، ويقضي على سلطاتهم غير الشرعية، لأن الفساد والانحراف ينمو على ايديهم، وهذا الفساد ينبغي ازالته ومحوه وانزال العقوبة الصارمة بمسببه. وقد وصف الله في كتابه المجيد فرعون بأنه (كان من المفسدين). وفي ظل حكم فرعوني يتحكم في المجتمع ويفسده ولا يصلحه، لا يستطيع مؤمن يتقي الله ان يعيش ملتزماً ومحتفظاً بإيمانه وهديه. وامامه سبيلان لا ثالث لهما: اما ان يقسر على ارتكاب اعمال مردية، او يتمرد على حكم الطاغوت ويحاربه، ويحاول ازالته، او يقلل من آثاره على الاقل. ولا سبيل لنا الا الثاني، لا سبيل لنا الا ان نعمل على هدم الانظمة الفاسدة المفسدة، ونحطم زمر الخائنين والجائرين من حكام وشعوب. هذا واجب يكلف به المسلمون جميعاً اينما كانوا من أجل خلق ثورة سياسية اسلامية ظافرة منتصرة)[44].



          فالسيد الخميني هو اول من ابتكر وتبنى ولاية الفقيه المطلقة كعقيدة دينية تجعل للفقيه العادل وظيفة دينية هي امتداد لوظيفة النبي (صلى الله عليه وآله) والائمة الهداة (صلوات الله عليهم). وتابعه في هذه العقيدة تلميذه الشيخ منتظري[45]، ثم انتشرت منهما في العالم الشيعي ولاسيما قبيل انتصار الثورة الاسلامية. ولم يكن كل المراجع الذين شاركوا في احداث الثورة الاسلامية ممن يذهبون الى عقيدة ولاية الفقيه المطلقة، بل كان العديد منهم يرى خلافها، فعلى سبيل المثال لم يكن المرجع المعروف السيد كاظم شريعتمداري يتبنى هذه العقيدة، بل ولا يتبنى النظرة السياسية للسيد الخميني أيضاً، حيث كان السيد شريعتمداري يرى الابقاء على الشاه[46]. مما يعني ان تحركه الثوري كان من اجل تثبيت الحاكمية الاسلامية وليس الحكم الاسلامي.



          اطلاق تسميه (الامام) على الولي الفقيه:
          بعدما كان لقب (الإمام) محصوراً في إطلاقه على الائمة الهداة الاثني عشر (عليهم السلام)، عمد بعض المغالين من اتباع عقيدة ولاية الفقيه المطلقة الى إطلاق وبإصرار لقب (الامام) في وصف السيد الخميني منذ سنة 1977م والى الان، ومن ثم اطلقوه على السيد الخامنئي، بإعتبار ان منصب (الولي الفقيه) هو منصب عقائدي، وهذا يظهر بهذه القوة لاول مرة في الادب والتراث الشيعي، حيث ان هذا اللقب حصري للأئمة المعصومين الهداة (صلوات الله عليهم)، مع ان المراجع العظام كان يطلق عليهم وما زال ألقاب من قبيل (آية الله العظمى) و(حجة الاسلام) وألقاب أخرى مقاربة.
          يقول الشيخ محمد جواد مغنية:
          (اما بحسب الدين والشرع فإن الامام يطلق على من يؤم الناس في الصلاة الا انه لا يستعمل في ذلك الا مقيداً، فيقال إمام الجمعة والجماعة.. وإذا كان مطلقاً غير مقيد فإنه يستعمل في معنيين: الاول في النبي، ومرتبته أعلى مراتب الامامة. الثاني يستعمل في وصي النبي.. والإمام بمعنى إمامة النبوة والرسالة، وامام الوصاية والخلافة متبوع في كل شيء غير تابع لغيره في شيء في زمن إمامته) ... (ومن هنا يتبين ان اطلاق لفظ الامام من غير قيد على غير النبي أو غير الوصي محل توقف وتأمل، وغير بعيد أن يكون محرَّماً، تماماً كاطلاق لفظ وصي النبي على غير الامام المعصوم)[47].


          ويقول السيد محمد حسين الطهراني في كتابه (ولاية الفقيه في حكومة الاسلام):
          (لا يجوز في مدرسة الشيعة ان يُطلق لفظ الامام على غير المعصوم، ولذا يُقال لهم "الامامية"، حيث ان الشيعة منسوبون الى الامام المعصوم لا الامام بمعنى القائد، وإلا فكل طائفة وفرقة إمامية، لأن لها قائد. ومن المسلَّم بين علماء الشيعة وحتى بين علماء أهل السنة أنَّ من خصائص الشيعة عدم استعمالهم لفظ "الامام" لغير الامام المعصوم. بينما يطلق هذا المصطلح بين أهل السنّة والعامّة على كل زعيم وحاكم وشخص كبير)[48].


          وأيضاً يقول السيد محمد حسين الطهراني في كتابه (معرفة الامام):
          (هذا هو معنى الامام في الاصطلاح الشيعي، أي: زعيم العالمين ومقتداهم في الشؤون الظاهرية والباطنية، والاجتماعية والمعنوية الروحانية، والملكية والملكوتية، وقد وهبة الله الحصانة والعصمة اصطفاء من لدنه ليكون زعيماً مقدماً في جميع الامور. وهؤلاء الائمة ينحصرون في اثني عشر شخصاً: أولهم الامام علي بن ابي طالب أمير المؤمنين عليه السلام، وآخرهم الامام الحجة بقية الله: محمد بن الحسن العسكري عجّل الله فرجه المبارك)[49]... (ولهذا في ضوء عقيدة الشيعة الاثني عشرية المؤمنة بحياة الحجّة عليه السلام وإمامته لا يمكن أن نطلق لقب (الامام) على غيره. وفي عرف الشيعة يطلق على المجتهدين العظام أُولي الفقاهة والعدالة الجامعين للشرائط ألقاب نحو (نائب الامام) وأمثاله)[50]...



          ومضى السيد الطهراني في كلامه وذكر ان الملا اسد الله البروجردي والملا محمد النراقي والمولى محمد تقي المامقاني والسيد محمد باقر الشفتي البيدآبادي يتلقبون بــ (حجة الاسلام) ثم قال:
          (ويلحظ ان اياً من هؤلاء وامثالهم لم يلقّب بلقب (الامام)، حتى الشيخ المفيد الذي لا خلاف عند الشيعة والعامّة في رئاسته العلمية والكلاميّة وزعامته، والشريف المرتضى والشريف الرضيّ مع زعامتهما الظاهرية ومنزلتهما عند السلاطين، وغزارة علومهما، وتقواهما الفريدة، وعلوّ همّتهما وشهامتهما ومِنعَتهما التي استأثرا بها)[51].



          ويذكر السيد الطهراني ان هناك من سبق السيد الخميني في التسمية بلقب الامام وهو الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء الذي اطلق المصريون عليه هذا اللقب وقبل هو التسمية به! وانتقده السيد الطهراني اشد الانتقاد على قبوله له مبيناً ان المصريين فعلوا هذا:
          (على علم وعمد منهم لكسر هيبة الامام وعظمته وعصمته عند الامامية)... (وقد انطلت عليه مكيدة علماء مصر إذ لم يقصدوا من تلقيبه بالامام المعنى المطلق الذي يستعملونه في أكابرهم، بل ارادوا الحطّ من شأن الامامية والامامة عبرتلقيبه بالامام. وفي السنة التي تلتها – او المرّة التي تلتها – إذ عُقِدَ ذلك الملتقى بمصر، دعا المصريون عالماً آخر مزيفاً من علماء النجف الاشرف وكان معروفاً بعمالته للنظام الحاكم يومئذٍ، وكان من طلاب الدنيا ولم يتورّع عن الكذب، لكن معلوماته جيدة نوعاً ما، وكان حسن اللسان وكان أعجمياً. دعوه بوصفه عالماً شيعياً. فلبى الدعوة وتوجّه تلقاء مصر، فلقّبوه بالامام ككاشف الغطاء، ولم يدّخروا وسعاً في تكريمه بلفظ الامام حتى انتهت مجالسهم ومحافلهم. ودل الجميع على ان هذا الرجل الذي لا حظ له من العلم والعمل والتقوى هو امام الشيعة. لذلك فإن أئمة الشيعة الوارد ذكرهم في التأريخ، والذين يتبعهم جميع الشيعة بوصفهم المقتدين المعصومينن من أين نعرف أنّهم ليسوا كهؤلاء الائمة؟! كل ما في الامر أنّهم اتخذوا طابع الطهارة والنزاهة والعصمة بسبب بُعد الفترة الزمنية، وعلى تعبير العامّة: لم يدخلوا الماء لكنّهم سباحون مؤهلون. ونحن نلحظ عين هذه التهم منسوبة الى الائمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين في كلمات أحمد أمين المصري. وعلم العارفون أنّ المرحوم كاشف الغطاء قد أخطأ في هذا الامر وباع رسالته بقبوله لقب (الامام) مع فهمه العميق وذكائه وبصيرته النافذة. وأنّ ما كان يدافع عنه في كتبه قد ذهب أدراج الرياح بقبوله إلصاق هذا اللقب به. وجعل شخصيته مضاهية لشخصية الامام في خضم تيّار الآراء والأهواء لشياطين مصر السنة. ورأينا بعد كاشف الغطاء أيضاً أنّ بعض العلماء الذين تصدّوا للمرجعية، وشيّدوا مدارس، زيّنوا مدارسهم بلوحة كتب عليها (مدرسة الامام) وهنا يكون ميدان المسابقة والمغالبة طبعاً، فإنّ بعضهم طبعوا رسائهم بأسم (الامام الاكبر).
          والعجيب أنّ لقب (علم الهدى) الذي عُرِفَ به الشريف المرتضى منحه إياه الامام المهدي في المنام، ولقب (بحر العلوم) الذي اشتهر به السيد مهدي الطباطبائي البروجردي منحه إياه أعاظم زمانه. ومع هذا لم يلقب أيٌّ منهما بالامام، مع انهما كانا بلا شك إمامين بالمعنى اللغوي ولهما صدارة محافل العلم ومجالس التدريس.
          إنّ إمامة الامام حسب منطق الشيعة تثبت من آية أُولي الامر التي يستفاد منها العصمة حتماً، بَيدَ أنَّ السنّة يسمّون كل من تقلّد زمام الامور: ولي الامر، سواء كان معاوية ام يزيد ام فهد ام صدام ام الحسن الثاني ام حسين الاردني، ومهما كانت افعالهم وانتهاكاتهم ومظالمهم. ويرونه واجب الإطاعة وفقاً لمفاد آية أولي المر. ولذا نلحظ ضروب الدمار التي حدثت وتحدث من هذا التفسير الخاطيء. أما الشيعة فإنهم يختصّون هذه الآية بأهل بيت العصمة باستدلال متين وبرهان رصين ويقولون: محال على الله أن يأمر بطاعة الوليّ الجائر والحاكم الظالم)[52].


          ثم يوجه السيد الطهراني الانتقاد الى السيد الخميني لقبوله بلقب (الامام) فقال:
          (ذلك الرجل العظيم الشأن ليس معصوماً عند الشيعة، ويجوز عليه الخطأ كغيره من المجتهدين، ولمّا كان مقرّاً ومعترفاً بإمام العصر والزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف فهو مقرّ ومعترف بوجود الامام الذي هو حي وغائب الآن. وحينئذٍ كيف يرضى أن يتلقب بالامام، ويتلقى ذلك بقبول حسن، ويستسيغه منذ أول نشيد قُريء عند استقباله في مطار مهرآباد بطهران (خمينى أى إمام) (= الخميني أيها الإمام) حتى آخر لحظة من حياته؟! هل كان ذلك بسبب تصدّيه لحكومة المسلمين، فهو إمام المسلمين؟ وهذا لا ينسجم مع منطق الشيعة وحياة إمام العصر والزمان الذي له سيطرة وولاية عليه وعلى الجميع.
          هل كان ذلك لأنّ ولاية الفقيه عنده كولاية الإمام بعينها؟ وعلى فرض قبول هذه النقطة، فلا يتم رضاه بعنوان الإمام في مقابل إمام العصر والزمان، ووجوده والاستمداد من فيوضاتهالظاهرية والباطنية. وماذا يضر لو كانت ولاية الوليّ الفقيه كولاية الإمام في حجمها وسعتها ونطاق حكومة الوليّ المذكور، لكنه مع ذلك يكون نائبه، لا هو بذاته؟! وهل من المحال أن تكون نيابة النائب بقدر سلطة المنوب عنه؟!
          هل كان ذلك لأنّ المقصود من الإمام هو المعنى اللغويّ ومطلق الزعيم ، لا الإمام الأصل؟ وهذا يُستبعد من شخص خبير بصير فقيه حكيم متأله مطّلع على جميع الأمور والأحداث. وهل كانت الألقاب الأخرى الدالة على زعامته المطلقة كقائد الثورة الاسلامية الكبير، ومؤسس الجمهورية الاسلامية في ايران، وأعلى مقام الاجتهاد والولاية ، وامثال ذلك قليلة حتى يُختار لقب الامام من بين تلك الالقاب جميعها؟!
          وصفوة القول أننا لم نقف لحد الآن على سر هذا الامر وحقيقته)[53].


          ويبين السيد الطهراني ان المخاطبات الرسمية للسيد الخميني لم تكن تقبل بدون وجود لقب (الامام)!! يقول:
          (انا لحد الان لم اُطلق على سماحته لقب الإمام في المجالس والمحافل، لا تكبرّاً على مقامه المنيع الرفيع، بل مراعاة لآداب المذهب. لكنّي استعملتُ اللقب في ثلاث رسائل كتبتها إليه، وكانت مليئة بالألقاب التي تليق به، مع ذلك أُخبرت أنّ الرسائل لا تُقبل إلا بذكر كلمة الإمام، فألحقتها بها)[54].


          وهذا يبين اصراراً غريباً على استعمال لقب (الامام) للسيد الخميني، وان الامر يتجاوز حالة الاستعمال العفوي!
          وذكر السيد محمد حسين الطهراني ان اول من اطلق على السيد الخميني لقب الامام هو الشيخ حسن روحاني رئيس الجمهورية الايرانية الحالي، قال:
          (وتحدث الدكتور حسن روحاني مرةً في مجلس فاتحة أُقيم بمناسبة استشهاد المرحوم السيد مصطفى الخميني زاده الله علواً ومرتبة فاستدل بالآية الكريمة ((وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) التي تفيد أن الله اعطى ابراهيم عليه السلام منصب الإمامة بعد ابتلائه بذبح ولده إسماعيل، فدعا الى اطلاق كلمة (الامام) على السيد الخميني بسبب استشهاد نجله السيد مصطفى. ولا يتم هذا الاستدلال إذ إنّ الله تعالى هو الذي منح إبراهيم ذلك العنوان وادّاه بقوله: إني جاعلك))، والله سبحانه الذي ترك الإمام المهدي حياً وجعله ملجأ وملاذاً وموئلاً ومنجياً، لا يجعل غماماً آخراً إلا على سبيل النيابة. ((لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ)) )[55].

          ولكن الظاهر ان هناك من سبق الشيخ حسن روحاني في اطلاق لقب الامام على السيد الخميني، حيث قال الشيح حيدر حب الله:
          (والمعروف ـ إيرانيّاً ـ أنّ السيد الخميني لم يكن ليقال له (إمام) سابقاً قبل انتصار الثورة في إيران، بل كان المعروف ـ حتى في الرسائل التي كانت توجّه إليه قبل انتصار الثورة، ومنها رسائل من السيد علي الخامنئي نفسه له ـ إطلاق عنوان (آقا روح الله) أو (آقاى خميني) أو (آية الله عظمى خميني) أو (آية الله) ونحو ذلك، وأنّ الطبعات القديمة لكتبه كان يغلب في الكتابة على غلافها تعبير (نائب الإمام الحجّة) ونحو ذلك، وليس تعبير (الإمام الخميني)، وأنّ قلّةً قليلة جداً هي التي أطلقت عليه هذا اللقب، ومنهم الأستاذ محمّد رضا حكيمي، في كتابه (فرياد روزها: 33)، والذي طبع قبل انتصار الثورة بسنين عديدة، وربما كانت طبعته الأولى عام 1963م، وكان من أوائل من عبّر عن السيد الخميني بكلمة (الإمام)، لكنّ هذا التعبير ظلّ تداوله محدوداً جدّاً إلى أن استشهد السيد مصطفى الخميني رحمه الله قبيل انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، إذ في مناسبة شهادته وإقامة مجلس عزاء في طهران لذلك، أعلن الدكتور الشيخ حسن الروحاني (رئيس الجمهوريّة الإسلامية الإيرانية الحالي) ومن على المنبر، الدعوةَ لإطلاق هذا التعبير في حقّ الإمام الخميني، وأنّه يستحقّ هذا التعبير، والمعروف ـ كما يشير العلامة الطهراني نفسه أيضاً أنّه ومنذ ذلك الحين بات هذا التعبير هو الرائج في حقّ السيد روح الله الخميني)[56].


          وكنموذج على الغلو في صفات منصب "الولي الفقيه" نقرأ كلام السيد محمد مهدي الخلخالي، قال:
          (ومن هنا نعرف أن إطلاق كلمة الإمام بمعناها العام على الفقيه الجامع للشرائط إطلاق حقيقي وواقعي، لأن الفقيه إمام الأمة الإسلامية، وخير أُسوة وقدوة وخير قائد رسالي، ويمكن أن يكون نموذجاً صادقاً من الإمام المعصوم (عليه السلام) كما أمر هو بوجوب الرجوع إليه أيضاً. ولهذا كانت العدالة بل تزكية النفس شرطاً لقيادته وإمامته. وجاء في حديث الامام الحسن العسكري 0عليه السلام): ((فاما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم)). نتيجة الكلام: فمن حديث الامام (عليه السلام) هذا نستفيد أن مقام القيادة خاص بالفقهاء الذين يتمتعون بصفات رفيعة وأبرزها تزكية النفس ليتمكنوا من أن يكونوا – كما كان الائمة المعصومون أنفسهم – قادة الاسلام وقدواته، وليحظوا بهذه الصلاحية وهي أن يتبعهم الناس في أقوالهم وأفعالهم وأخلاقهم، وهذا هو معنى الامامة، ومفهومها (أي ولاية الامام العامة) والمقصود من ولاية الامامة هو هذا المعنى (القائد الديني).
          ووجود مثل هذه الولاية (ولاية الامامة العامة) للفقيه الجامع للشرائط، ليس محل نقاش وشك من جهة اللغة والعرف القرآني، وفي نظر ولسان المتشرعة والحديث وتعابير نهج البلاغة)[57].
          اذن ولاية الفقيه العقائدية وجدوا لها تسمية اخرى هي (ولاية الامامة العامة)! ووجدوا شرعية لإطلاق لقب (الامام) على الفقيه غير المعصوم! قال تعالى: ((إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ))[58].







          من شبهات "ولاية الفقيه العقائدية":
          وينبغي التنبيه على ان جعل ولاية الفقيه المطلقة من ضمن العقائد الدينية وجعل وظيفة "الولي الفقيه" امتداداً لوظيفة الامام المعصوم (عليه السلام) وانهما وظيفة واحدة، قد اعطى الذريعة لبعض المتصيدين في الماء العكر، كسيء الصيت أحمد الكاتب، لان يتهم التشيّع بأنه يمر بمرحلة جديدة تتجاوز عصر الغيبة الكبرى ويستغني فيها الشيعة عن منصب الامامة لصالح منصب "الولي الفقيه" !
          قال سيء الصيت احمد الكاتب:
          (وقد كان للتطوّر التدريجي الطويل، الذي امتد أكثر من ألف عام، أثره أيضاً على طبيعة نظرية ولاية الفقيه، من حيث عدم التكامل والشمول في البحث، واقتصار النظرية على الجانب الرئاسي، وإهمال الدور السياسي للأمة. وفي الحقيقة ان اساس المشكلة في هذه المسألة المهمّة يعود الى الدمج بين نظرية النيابة العامة المستنبطة من بعض الادلة الروائية الضعيفة، وبين نظرية ولاية الفقيه المعتمدة على العقل، وعلى ضرورة تشكيل الحكومة في عصر الغيبة بعيداً عن شروط العصمة والنصّ الإلهي والسلالة العلوية الحسينية، وان الخلط بين هاتين النظريتين، أو تطوير نظرية النيابة العامّة الى مستوى إقامة الدولة، أدّى الى جعل الفقيه بمثابة الامام المعصوم أو النبي العظم وإعطائه كامل الصلاحيات المطلقة، وإلغاء الفوارق بين المعصوم وغير المعصوم، بالرغم من قابلية الأخير للجهل والخطأ والانحراف، وهو ما يتناقض مع أساس الفسفة الإمامية القديمة حول اشتراط العصمة في الامام)[59].
          فأحمد الكاتب يحاول ان يصوّر ان هناك مذهباً إمامياً قديماً قبل ظهور ولاية الفقيه المطلقة ومذهباً جديداً يمثله ظهورها! وهو قد انتهز الفرصة للتشنيع على التشيّع ودعم فكرته المنحرفة الجاحدة لوجود الامام الحجة بن الحسن (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).
          وقال ايضاً:
          (أن الفكر الشيعي السياسي الآن، تجاوز الفكر الإمامي الاثني عشري. لم يعد الشيعة الآن إمامية اثني عشرية، إنما هذا فكر منقرض وغير عملي. لذلك بدأ الشيعة يتبنون نظريات جديدة كالنظرية الديمقراطية مثلاً، أو نظرية ولاية الفقيه. نظرية ولاية الفقيه في الأساس نظرية زيدية متناقضة مع الفكر الإمامي مطلقا، وهي مفروضة من قِبل الإماميين في القرن الرابع، وقد طُرحت في الكتب على الإمامية بأن يلتزموا بنظرية ولاية الفقيه كبديل عن الإمام الغائب، ويوجد من ردّ عليها كالشيخ الصدوق في كتابه (إكمال الدين)؛ بأن هذه الفكرة مرفوضة نهائياً ومن المستحيل أن يقبل بها، لأنها تتناقض مع ضرورة العصمة في الإمام أو الرئيس، وضرورة النص والسلالة العلوية وما إلى ذلك. أما ولاية الفقيه فلا تشترط العصمة ولا النص ولا السلالة، ومن الممكن أن يصير أي إنسان إماماً أو رئيساً. إن الشيعة الآن متقدمون جداً في الفكر السياسي المعاصر، إننا نرى السيد السيستاني مثلاً يتبنى الفكر الديمقراطي تماماً، ويُؤسس لنظام ديمقراطي جديد في العراق. إذن لستُ أنا الذي أنقد هذا الفكر، وإنما الواقع هو الذي يفرض هذا، والشيعة الآن بعامتهم قد تخلوا عن هذا الفكر عملياً، وإنْ كان قد تخلى بعض الشيعة عنه نظرياً)[60].


          واضح ان احمد الكاتب يبالغ ويحاول اشاعة ان الشيعة الامامية جميعهم اليوم يتبعون ولاية الفقيه العقائدية ويؤمنون بها! مع انه من الواضحات ان غالبية الشيعة الامامية بعيدون عن الايمان المذكور. واما الربط بين التزام الشيعة في العراق في العمل السياسي بالمنهج الديمقراطي فهذا لا يتعارض مع مذهب الشيعة كما يحاول احمد الكاتب افتعاله! ولا ننسى ان الشيخ النائيني قبل أكثر من 100 سنة قد كتب كتابه الشهير (تنبيه الامة وتنزيه الملة) المتعلق بإقامة الحكومة والبرلمان وكتابة دستور على اسس تعتبر موافقة للديمقراطية الحديثة.


          وقال احمد الكاتب ناسباً التفرد بالسلطة الى ولاية الفقيه العقائدية:
          (كانت نظرية ولاية الفقيه، خصوصا في نسختها الأخيرة التي طرحها الإمام الخميني سنة 1988 موغلة في الديكتاتورية، حيث صرح الإمام الخميني بأنه لا يعبأ أبدا بمعارضة الأمة حتى لو وقعت اتفاقية شرعية مع الحاكم (الفقيه) إذا تبين له بعد ذلك أن تلك الاتفاقية معارضة للإسلام أو لمصلحة البلاد. ويستطيع أن يلغي الاتفاقية من طرف واحد!)[61].


          ولكنه يعود ليتنازل عن طرحه هذا أو يغض النظر عنه بقوله:
          (نظرية ولاية الفقيه لا وجود لها اليوم في إيران، وذلك لأن هذه النظرية انبثقت في القرون الماضية بديلاً عن نظرية الإمامة الإلهية لأهل البيت، أو امتدادا لها في عصر غيبة الإمام الثاني عشر، وكان أول من طرحها قبل حوالي قرنين الشيخ أحمد النراقي، ثم تبناها الإمام الخميني قبل الثورة الإسلامية في إيران، ولكنه عاد فتنازل عنها لصالح الجمهورية الإسلامية الديموقراطية التي تقوم على أساس ولاية الأمة على نفسها، وانتخاب الإمام ورئيس الجمهورية ومجلس النواب، تماما كما يحدث في الأنظمة الديموقراطية، وقد تطور حتى مفهوم كلمة (الفقيه) من الفقيه التقليدي أو مرجع التقليد المعروف لدى الشيعة إلى العارف بالأمور السياسية، وقد انتخب السيد علي الخامنئي خلفا للخميني، حتى قبل أن يحوز على رتبة الاجتهاد في الفقه الشيعي، وكانت نظرية ولاية الفقيه تستند في شرعيتها الدستورية إلى نظرية أخرى سابقة، وهي نيابة الفقيه العادل عن الإمام المهدي الثاني عشر الغائب، ولكن الدستور الإيراني لم يشر إلى هذه النظرية كمصدر من مصادر الشرعية، واكتفى بالشرعية الدستورية الديموقراطية، طبعا ضمن القانون الإسلامي والفقه. ولا تزال الجمهورية الإسلامية تلتزم بالانتخابات الرئاسية والنيابية كل أربع سنوات، ما عدا انتخاب القائد الذي تم لمرة واحدة بعد وفاة الخميني من قبل مجلس الخبراء، ولا يزال خامنئي يتمتع بسلطاته العليا على الدولة من دون تغيير. وهذه نقطة، وإن كانت دستورية، إلا أنها قد تتناقض مع روح الديموقراطية التي تقتضي المحاسبة والنقد والتغيير وتبادل السلطة)[62].

          ومن جانب آخر، لا يمكن ان يحل "الولي الفقيه" بصورة عملية محل الامام المعصوم (صلوات الله عليه) حتى وإن اُعطِيَ "الولي الفقيه" من الناحية الفقهية نفس الوظيفة بل وحتى لو اعطيها من الناحية العملية ايضاً! لعدم النص وعدم العصمة ولأختلاف مستوى العلم بينهما وطبيعته، وإلا فإذا كان يمكن ذلك فما هي فائدة وجود الامام المعصوم؟ ولماذا قدّم الائمة المعصومين (صلوات الله عليهم) كل هذه التضحيات !!
          أيضاً، نجد أنَّ مذهب الشيعة الامامية بوجود "الامام الولي الفقيه" الذي له نفس وظيفة المعصوم (عليه السلام) يتحول الى مذهب مماثل لمذهب الشيعة الزيدية، فالولي الفقيه الذي يحمل لقب (الامام) سيكون بمثابة سد للفراغ الذي تركته غيبة الامام المعصوم (عجّل الله فرجه الشريف)! وبذلك ستظهر في التشيّع "سلسلة الائمة الفقهاء غير المعصومين"، والذين لديهم نفس وظيفة الامام المعصوم !! وسيكون "الامام الولي الفقيه" في نفس مرتبة "إمام الزيدية"! بإعتبار ان الزيدية لا يشترطون أيضاً في ائمتهم النص والعصمة.


          يقول احد أئمة الزيدية وهو الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم (ت 298هـ) في وصفه للإمام المفترض الطاعته:
          (الإمام الذي تجب طاعته هو أن يكون من ولد الحسن أو الحسين(ع) ويكون ورعاً، تقياً، صحيحاً، نقياً، وفي أمر الله عز وجل جاهداً، وفي حطام الدنيا زاهداً، فَهِماً بما يحتاج إليه، عالماً بملتبس ما يَرِدُ عليه، شجاعاً، كمياً، بذولاً، سخياً، رؤوفاً بالرعية، رحيماً، متعطفاً متحنناً، حليماً، مواسياً لهم بنفسه، مشاركاً لهم في أمره، غير مستأثر عليهم، ولا حاكم بغير حكم الله فيهم، رصين العقل، بعيد الجهل، آخذاً لأموال الله من مواضعها، راداً لها في سبلها، مفرقاً لها في وجوهها التي جعلها الله لها، مقيماً لأحكام الله وحدوده، آخذاً لها ممن وجبت عليه ووقعت بحكم الله فيه، من قريب أو بعيد شريف أو دني، لا تأخذه في الله لومة لائم، قائماً بحقه، شاهراً لسيفه، داعياً إلى ربه، مجتهداً في دعوته، رافعاً لرايته، مفرقاً للدعاة في البلاد، غير مقصِّر في تأليف العباد، مخيفاً للظالمين، مؤمِّناً للمؤمنين، لا يأمن الفاسقين ولا يأمنونه، بل يطلبهم ويطلبونه، قد باينهم وباينوه، وناصبهم وناصبوه، فهم له خائفون، وعلى هلاكه جاهدون، يبغيهم الغوائل، ويدعو إلى جهادهم القبائل، متشرداً عنهم، خائفاً منهم، لا تردعه ولا تهوله الأخواف، ولا يمنعه عن الاجتهاد عليهم كثرة الإرجاف، شمري مشمر، مجتهد غير مقصِّر. فمن كان كذلك من ذرية السبطين الحسن والحسين(ع) فهو الإمام المفترضة طاعته الواجبة على الأمة نصرته)[63].



          تسقيط المنتقدين لولاية الفقيه العقائدية:
          وقد عمد بعض انصار (ولاية الفقيه المطلقة) العقائدية الى اسلوب الدفاع عن هذه العقيدة بتسقيط كل من يعارضها او ينتقدها ! فيتهمونه بالعمالة للاستكبار العالمي إلخ ! لذر الرماد امام اعين المؤمنين لمنع نقدها بإعتبارها قضية عقائدية يجب على كل مؤمن بحسب تكليفه الشرعي ان يتوصل لها ببحثه وتمحيصه، فهي ليست قضية فقهية كقضية (ولاية الفقيه العامة) ذات المستند الفقهي التي يكون للفقهاء وحدهم الحق في نقدها وتمحيصها بإعتبارها قضية فقهية تخصصية. وهذا فرق واسع بين (ولاية الفقيه) الفقهية و(ولاية الفقيه) العقائدية. ونختار فيما يلي نموذجين يهاجمان ناقدي (ولاية الفقيه المطلقة) العقائدية:
          النموذج الاول: كتب الشيخ الدكتور محسن الحيدري:
          (وهذه الاطروحة ليست متقوّمة بشخص خاص كالإمام الخميني (قدس سره) مثلاً وإنما ترتكز الى المباديء السامية ذات الحيوية كتيار مستمر، ولذلك رأينا استمرارية تلك الاطروحة بعد ارتحاله من دار الدنيا الى الملكوت الاعلى، حيث تجسدت بقيادة خليفته الصالح ولي امر المسلمين السيد الامام الخامنئي. وهذا الواقع هو الذي أثار حفائظ أعداء الاسلام فوجّههم الى هذه الفكرة، ان الاطاحة بتلك الثورة العملاقة لا تتسنى لهم إلا من خلال إسقاط ولاية الفقيه من الاعتبار، وإنما يتحقق ذلك الهدف المشؤوم من خلال إلقاء الشّبَه والشكوك إلى لواقح الفتن حول الاعتقاد بولاية الفقيه)[64].
          النموذج الثاني: كتب عادل رؤوف:
          (ولأن مسألة ولاية الفقيه هي مسألة خلافية بين من يراها مطلقة أو محدودة ضمن دوائر معينة ومتعددة، ولأن هنالك من يفهم الولاية على أساس (الولاية الحسبية) أو على أساس (الولاية المطلقة)، فلقد تحولت ولاية الفقيه الى محور من المحاور التي تحرك عليها أعداء الاسلام، لإثارة الغبار بوجه التجربة الاسلامية الخمينية ووضع العراقيل والمشاكل أمامها، انطلاقاً من حساسيتها، وقد أثير فيما أثير حول هذه المسألة التعدد الاجتهادي، فماذا لو أفرز هذا التعدد آراء فقهية تعارض آراء (الولي الفقيه) في ظل الدولة الاسلامية؟)[65].
          ومن الجدير بالذكر ان اول فقيه شيعي وجه النقد لولاية الفقيه المطلقة هو الشيخ محمد جواد مغنية (رحمه الله) في كتابه (الخميني والحكومة الاسلامية) الذي صدر بعيد انتصار الثورة الاسلامية سنة 1979م.


          تعليق


          • #6
            ج6

            ضابطة ترسيخ الوجود الاسلامي في دستور دولة دينية:
            هناك نموذجان لدستور جمهورية اسلامية يقودُها الفقيه، لإرساء سيادة الاسلام. الاول هو دستور الجمهورية الاسلامية في ايران. والثاني هو رؤية السيد محمد باقر الصدرفي كتابيه (لمحة فقهية لدستور الجمهورية الاسلامية) والذي كتبه في 6 ربيع الاول 1399هـ الموافق 5 شباط/ فبراير 1979م. وكتابه الآخر هو (خلافة الانسان وشهادة الانبياء) الذي انتهى من كتابته في 15 ربيع الثاني 1399هـ الموافق حوالي 14 آذار/مارس 1979م، اي بُعَيد انتصار الثورة الاسلامية في ايران. والذي نظّمَ فيه العلاقة بين الامة والمرجعية الدينية في عصر الغيبة الكبرى. والكتاب الاخير كأنما شرح ومستند لما جاء في الدستور المقترح في كتابه الاول.
            ورغم ان هناك من يرى ان السيد الصدر في كتابيه هذين جاء بنظرية جديدة تجمع بين ولاية الفقيه والشورى، الا ان هذه الرؤية يبدو أنها غير تامة حيث ان الدستور الذي كُتِبَ برعاية السيد الخميني هو مقارب في محاوره وفي رسمه للعلاقة بين الولي الفقيه والامة لما ذهب اليه السيد الصدر في كتابيه هذين.
            ورغم ان السيد محمد باقر الصدر كان يذهب الى نظرية (ولاية الفقيه العامة) الفقهية بينما السيد الخميني يذهب الى (ولاية الفقيه المطلقة) العقائدية، وقد عرفتَ الفرق بينهما، إلا ان الدستور الذي كتبه السيد الصدر فيه جوانب مشتركة عديدة مع دستور الجمهورية الاسلامية الذي كُتِبَ تحت رعاية السيد الخميني، في خطوطهما العامة ولاسيما فيما يخص علاقة الفقيه بالحكومة الاسلامية والدولة القائمة.
            وما يهمنا من دستور أية جمهورية اسلامية هو العلاقة بين القائد والشعب في سبيل ترسيخ وجود الاسلام في الحياة وصيانته. ونختار نموذج من كلام السيد محمد باقر الصدر الذي يوضح العلاقة بين الامة والمرجع، قال:
            (فأُعلِنَ عن الغيبة الكبرى، وبذلك بدأت مرحلة جديدة من خطّ الشهادة تمثّلت في المرجعيّة، وتميّز في هذه المرحلة خطّ الشهادة عن خطّ الخلافة بعد أن كانا مندمجين في شخص النبي أو الإمام؛ وذلك لأنّ هذا الاندماج لا يصحّ إسلامياً إلّا في حالة وجود فرد معصوم قادر على أن يمارس الخطّين معاً، وحين تخلو الساحة من فرد معصوم، فلا يمكن حصر الخطّين في فرد واحد.
            فخطّ الشهادة يتحمّل مسؤوليته المرجع، على أساس أنّ المرجعية امتداد للنبوّة والإمامة على هذا الخطّ. وهذه المسؤولية تفرض:
            أوّلاً: أن يحافظ المرجع على الشريعة والرسالة، ويردّ عنها كيد الكائدين وشبهات الكافرين والفاسقين.
            ثانياً: أن يكون هذا المرجع في بيان أحكام الإسلام ومفاهيمه مجتهداً، ويكون اجتهاده هو المقياس الموضوعي للأمّة من الناحية الإسلامية، وتمتدّ مرجعيته في هذا المجال إلى تحديد الطابع الإسلامي، لا للعناصر الثابتة من التشريع في المجتمع الإسلامي فقط، بل للعناصر المتحرّكة الزمنية أيضاً، باعتباره هو الممثّل الأعلى للأيديولوجية الإسلامية.
            ثالثاً: أن يكون مشرفاً ورقيباً على الأمّة، وتفرض هذه الرقابة عليه أن يتدخّل لإعادة الأُمور إلى نصابها إذا انحرفت عن طريقها الصحيح إسلامياً، وتزعزعت المبادئ العامّة لخلافة الإنسان على الأرض.
            والمرجع الشهيد معيّن من قبل الله تعالى بالصفات والخصائص؛ أي بالشروط العامّة الموجودة في كلّ الشهداء التي تقدّم ذكرها، ومعيّن من قِبل الأُمّة بالشخص، إذ تقع على الأُمّة مسؤولية الاختيار الواعي له.
            وأمّا خطّ الخلافة الذي كان الشهيد المعصوم يمارسه، فما دامت الأُمّة محكومة للطاغوت ومقصية عن حقّها في الخلافة العامّة، فهذا الخط يمارسه المرجع، ويندمج الخطّان حينئذٍ - الخلافة والشهادة - في شخص المرجع. وليس هذا الاندماج متوقّفاً على العصمة؛ لأنّ خطّ الخلافة في هذه الحالة لا يتمثّل عملياً إلّا في نطاق ضيّق، وضمن حدود تصرّفات الأشخاص، وما دام صاحب الحقّ في الخلافة العامّة قاصراً عن ممارسة حقّه نتيجة لنظام جبّار، يتولى المرجع رعاية هذا الحقّ في الحدود الممكنة، ويكون مسؤولاً عن تربية هذا القاصر وقيادة الأُمّة لاجتياز هذا القصور وتسلّم حقّها في الخلافة العامّة.
            وأمّا إذا حرّرت الأُمّة نفسها فخطّ الخلافة ينتقل إليها، فهي التي تمارس القيادة السياسية والاجتماعية في الأُمّة بتطبيق أحكام الله وعلى أساس الركائز المتقدّمة للاستخلاف الربّاني.
            وتمارس الأُمّة دورها في الخلافة في الإطار التشريعي للقاعدتين القرآنيتين الآتيتين: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ... ﴾.
            فإنّ النصّ الأوّل يعطي للأُمّة صلاحية ممارسة أمورها عن طريق الشورى، ما لم يرد نصّ خاصّ على خلاف ذلك، والنصّ الثاني يتحدّث عن الولاية، وإنّ كلّ مؤمن ولي الآخرين؛ ويريد بالولاية تولّي أموره، بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه، والنصّ ظاهر في سريان الولاية بين كلّ المؤمنين والمؤمنان بصورة متساوية. وينتج عن ذلك الأخذ بمبدأ الشورى وبرأي الأكثرية عند الاختلاف.
            وهكذا وزّع الإسلام في عصر الغيبة مسؤوليّات الخطّين بين المرجع والأُمّة، بين الاجتهاد الشرعي والشورى الزمنية، فلم يشأ أن تمارس الأُمّة خلافتها بدون شهيد يضمن عدم انحرافها ويشرف على سلامة المسيرة ويحدّد لها معالم الطريق من الناحية الإسلامية، ولم يشأ من الناحية الأخرى أن يحصر الخطّين معاً في فرد ما لم يكن هذا الفرد مطلقاً، أي معصوماً.
            وبالإمكان أن تستخلص من ذلك: أنّ الإسلام يتّجه إلى توفير بيئة العصمة بالقدر الممكن دائماً، وحيث لا يوجد على الساحة فرد معصوم، بل مرجع شهيد، ولا أمّة قد أنجزت ثورياً بصورة كاملة وأصبحت معصومة في رؤيتها النوعية، بل أمّة لا تزال في أوّل الطريق، لا بدّ أن تشترك المرجعية والأمّة في ممارسة الدور الاجتماعي الربّاني بتوزيع خطّي الخلافة والشهادة وفقاً لما تقدّم.
            ومن الضروري أن يلاحظ أنّ المرجع ليس شهيداً على الأمّة فقط، بل هو جزء منها أيضاً، وهو عادة من أوعى أفراد الأمّة وأكثرها عطاءً ونزاهة، وعلى هذا الأساس، وبوصفه جزءاً من الأمّة، يحتلّ موقعاً من الخلافة العامّة للإنسان على الأرض، وله رأيه في المشاكل الزمنية لهذه الخلافة وأوضاعها السياسية بقدر ماله من وجود في الأمّة، وامتداد اجتماعي وسياسي في صفوفها.
            وهكذا نعرف أنّ دور المرجع كشهيد على الأمّة دور ربّاني لا يمكن التخلّي عنه، ودوره في إطار الخلافة العامّة للإنسان على الأرض دور بشري اجتماعي يستمدّ قيمته وعمقه من مدى وجود الشخص في الأمّة وثقتها بقيادته الاجتماعية والسياسية)[66].

            معالم ترسيخ وجود الاسلام في تحرك السيد الصدر:
            واذا راجعنا النداءات الثلاثة الاخيرة التي اطلقها السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه) ابتداءاً من شهر حزيران/ يونيو سنة 1979م وحتى استشهاده في نيسان/ ابريل 1980م، نجد في هذه النداءات الثلاثة ملامح عامة تبين انه استشعر أنَّ الخطر المحدق ينال وجود الاسلام ورسوخه في المجتمع، وهذا هو السبب الذي من اجله تحرك السيد محمد باقر الصدر وضحّى بحياته الشريفة من أجله.
            ففي النداء الاول يقول السيد محمد باقر الصدر:
            (أنَّ هذا الكبت الذي فُرض بقوّة الحديد والنار على الشعب العراقيّ، فحرمَه من أبسط حقوقه وحرّياته في ممارسة شعائره الدينية لا يمكن أن يستمر، ولا يمكن أنْ يعالج دائماً بالقوّة والقمع. إنّ القوّة لو كانت علاجاً حاسماً دائماً لبقي الفراعنة والجبابرة… أسقطوا الأذان من الإذاعة فصبرنا ! وأسقطوا صلاة الجمعة من الإذاعة فصبرنا! وطوّقوا شعائر الإمام الحسين (عليه السلام) ومنعوا القسم الأعظم منها فصبرنا! وحاصروا المساجد وملأوها أمناً وعيوناً فصبرنا.. وقاموا بحملات الإكراه على الانتماء إلى حزبهم فصبرنا! وقالوا: إنّها فترة انتقال يجب تجنيد الشعب فيها فصبرنا! ولكن إلى متى؟! إلى متى تستمرُّ فترة الانتقال؟! إذا كانت فترة عشر سنين من الحكم لا تكفي لإيجاد الجوّ المناسب لكي يختار الشعب العراقي طريقه؛ فأيّ فترة تنتظرون لذلك؟! وإذا كانت فترة عشر سنين من الحكم المطلق لم تتح لكم – أيّها المسؤولون – إقناع الناس بالانتماء إلى حزبكم إلّا عن طريق الإكراه، فماذا تأملون؟! وإذا كانت السلطة تريد أنْ تعرف الوجه الحقيقي للشعب العراقي فلتجمّد أجهزتها القمعيّة أسبوعاً واحداً فقط، ولْتسمح للناس بأن يعبّروا خلال أسبوع عمّا يريدون. إنّي أطالب باسمكم جميعاً؛ أطالب بإطلاق حريّة الشّعائر الدينيّة، وشعائر الإمام أبي عبد الحسين (عليه السلام). وأطالب باسمكم جميعاً بإعادة الأذان وصلاة الجمعة والشعائر الإسلامية إلى الإذاعة. وأطالب باسمكم جميعاً بإيقاف حملات الإكراه على الانتساب إلى حزب البعث على كلّ المستويات. وأطالب باسم كرامة الإنسان بالإفراج عن المعتقلين بصورة تعسّفية وإيقاف الاعتقال الكيفي الذي يجري بصورة منفصلة عن القضاء. وأخيراً؛ أُطالب باسمكم جميعاً وباسم القيم التي تمثّلونها بفسح المجال للشعب ليمارس بصورة حقيقّية حقّة في تسيير شؤون البلاد، وذلك عن طريق اجراء انتخاب حرٍّ ينبثق عنه مجلس يمثّل الأمّة تمثيلًا صادقاً. وإنّي أعلم أنّ هذه الطلبات سوف تُكلّفني غالياً وقد تكلّفني حياتي، ولكنّ هذه الطلبات ليست طلب فرد ليموت بموته، وإنّما هذه الطلّبات هي مشاعر أمّة وإرادة أمّة ولا يمكن أنْ تموت أمّة تعيش في أعماقها روحُ محمّد وعليّ والصفوة من آل محمّد وأصحابه. وإذا لم تستجب السلطة لهذه الطّلبات، فإنّي أدعو أبناء الشعّب العراقي الأبيّ إلى المواصلة في حمل هذه الطلبات مهما كلّفه ذلك من ثمن لأنّ هذا دفاعٌ عن النفس وعن الكرامة، وعن الإسلام رسالة الله الخالدة، والله وليّ التوفيق).
            وفي النداء الثاني يقول:
            (يا جماهير العراق المسلمة التي غضبت لدينها وكرامتها ولحريتها وعزّتها، ولكلّ ما آمنت به من قيم ومثل! أيّها الشعب العظيم! إنّكَ تتعرّض اليوم لمحنة هائلة على يد السفّاكين والجزّارين الذين هالهم غضب الشعب وتململ الجماهير بعد أن قيّدوها بسلاسل من الحديد ومن الرّعب والإرهاب، وخيّل للسّفاكين أنّهم بذلك انتزعوا من الجماهير شعورها بالعزّة والكرامة وجرّدوها من صلتها بعقيدتها وبدينها وبمحمّدها العظيم لكي يحولّوا هذه الملايين الشّجاعة المؤمنة من أبناء العراق الأبيّ إلى دمى وآلات يحرّكونها كيف يشاؤون، ويزقّونها ولاء (عفلق) وأمثاله من عملاء التبشير والاستعمار بدلًا من ولاء محمد وعليّ – صلوات الله عليهما -، ولكنّ الجماهير دائماً هي أقوى من الطغاة مهما تفرعن الطغاة، وقد تصبر ولكنّها لا تستسلم، وهكذا فوجئ الطّغاة بأنّ الشعب لا يزال ينبض بالحياة، ولا تزال لديه القدرة على أن يقول كلمته! وهذا هو الذي جعلهم يبادرون إلى القيام بهذه الحملات الهائلة على عشرات الآلاف من المؤمنين والشرفاء من أبناء هذا البلد الكريم، وحملات السجن والاعتقال والتعذيب والإعدام، وفي طليعتهم العلماء المجاهدون الذين يبلغني أنّهم يستشهدون الواحد بعد الآخر تحت سياط التعذيب! وإنّي في الوقت الذي أدرك فيه عمق هذه المحنة التي تمرّ بكَ يا شعبي! يا شعب آبائي وأجدادي- أؤمن بأنّ استشهاد هؤلاء العلماء واستشهاد خيرة شبابك الطاهرين وأبنائك الغيارى تحت سياط العفالقة لن يزيدكَ إلّا صموداً وتصميماً على المضيّ في هذا الطريق، حتّى الشهادة أو النصر! وأنا أعلن لكم – يا أبنائي – أنّي صَمَمّتُ على الشهادة! ولعلّ هذا آخر ما تسمعونه منّي، وإنّ أبواب الجنّة قد فتحت لتستقبل قوافل الشهداء حتّى يكتب الله لكم النّصر! وما ألذّ الشهادة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّها حسنة لا تضرّ معها سيّئة. والشهيد بشهادته يغسل كلّ ذنوبه مهما بلغت. فعلى كلّ مسلم في العراق وعلى كلّ عراقي في خارج العراق أن يعمل كلّ ما بوسعه – ولو كلّفه ذلك حياته – من أجل إدامة الجهاد والنضال لإزالة هذا الكابوس عن صدر العراق الحبيب وتحريره من العصابة اللاإنسانيّة وتوفير حكم صالح فذٍّ شريف يقوم على أساس الإسلام.).
            وفي النداء الثالث يقول:
            (يا إخواني وأبنائي من أبناء الموصل والبصرة .. من أبناء بغداد وكربلاء والنجف … من أبناء سامرّاء والكاظميّة .. من أبناء العمارة والكوت والسليمانيّة .. من أبناء العراق في كلّ مكان، إنّي أعاهدكم بأنّي لكم جميعاً ومن أجلكم جميعاً، وأنّكم جميعاً هدفي في الحاضر والمستقبل .. فلتتوحّد كلمتكم، ولتتلاحم صفوفكم تحت راية الإسلام، ومن أجل إنقاذ العراق من كابوس هذه الفئة المتسلّطة، وبناء عراق حرّ كريم تغمره عدالة الإسلام وتسوده كرامة الإنسان، ويشعر فيه المواطنون جميعاً – على اختلاف قوميّاتهم ومذاهبهم – بأنّهم إخوة، يساهمون جميعاً في قيادة بلدهم وبناء وطنهم، وتحقيق مثلهم الإسلاميّة العليا المستمدّة من رسالتنا الإسلامية وفجر تاريخنا العظيم).
            فالأصل عنده هو ترسيخ وجود الاسلام وسيادته، وبعد ذلك يتم الاتفاق على شكل وطبيعة الحكم من خلال اتبثاق مجلس يمثل الامة.
            ويقول السيد محمد باقر الصدر في كتيبه (لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران):
            (إن الدولة ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان. وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء، واتخذت صيغتها السوية، ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنساني وتوجيهه من خلال ما حققه الأنبياء في هذا المجال من تنظيم اجتماعي قائم على أساس الحق والعدل يستهدف الحفاظ على وحدة البشرية وتطوير نموها في مسارها الصحيح. قال الله تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة: 213]. ونلاحظ من خلال هذا النص أن الناس كانوا أمة واحدة في مرحلة تسودها الفطرة، وتوحد بينها تصورات بدائية للحياة وهموم محددة وحاجات بسيطة. ثم نمت ـ من خلال الممارسة الاجتماعية للحياة ـ المواهب والقابليات وبرزت الامكانات المتفاوتة واتسعت آفاق النظر وتنوعت التطلعات وتعقدت الحاجات، فنشأ الاختلاف وبدأ التناقض بين القوي والضعيف، وأصبحت الحياة الاجتماعية بحاجة إلى موازين تحدد الحق وتجسد العدل وتضمن استمرار وحدة الناس في إطار سليم، وتصب كل تلك القابليات والامكانات التي نمتها التجربة الاجتماعية في محور ايجابي يعود على الجميع بالخير والرخاء والاستقرار بدلاً عن أن يكون مصدراً للتناقض وأساساً للصراع والاستغلال. وفي المرحلة ظهرت فكرة الدولة على يد الأنبياء وقام الأنبياء بدورهم في بناء الدولة السليمة، ووضع الله تعالى للدولة أسسها وقواعدها كما لاحظنا في الآية الكريمة المتقدمة الذكر. وظل الأنبياء يواصلون بشكل وآخر دورهم العظيم في بناء الدولة الصالحة، وقد تولى عدد كبير منهم الاشراف المباشر على الدولة كداوود وسليمان وغيرهما، وقضى بعض الأنبياء كل حياته وهو يسعى في هذا السبيل كما في حالة موسى (ع)، واستطاع خاتم الأنبياء (ص) أن يتوّج جهود سلفه الطاهر بإقامة أنظف وأطهر دولة في التاريخ شكلت بحق منعطفاً عظيماً في تاريخ الإنسان وجسدت مبادئ الدولة الصالحة تجسيداً كاملاً ورائعاً).
            ثم يقول السيد محمد باقر الصدر مؤكداً على رسوخ الاسلام وسيادته عبر التاريخ:
            (وعلى الرغم من أن هذه الدولة قد تولاّها في كثير من الأحيان بعد وفاة الرسول الأعظم قادة لا يعيشون أهدافها الحقيقة ورسالتهم العظيمة، فإن الإمامة التي كانت امتداداً روحياً وعقائدياً للنبوة ووريثاً لرسالة السماء مارست باستمرار دورها في محاولة تصحيح مسار هذه الدولة واعادتها إلى طريقها النبوي الصحيح، وقدم الأئمة عليهم السلام في هذا السبيل زخماً هائلاً من التضحيات التي توّجها استشهاد أبي الأحرار وسيد الشهداء أبي عبد الله الحسين مع الصفوة من أهل بيته وأصحابه في يوم عاشوراء. وقد امتدت الإمامة بعد عصر الغيبة في المرجعية، كما كانت الإمامة امتداداً بدورها للنبوة، وتحملت المرجعية أعباء هذه الرسالة العظيمة، وقامت على مر التاريخ بأشكال مختلفة من العمل في هذا السبيل أو التمهيد له بطريقة وأخرى. وقد عاش العالم المسلم الشيعي دائماً مع كل الصالحين وكل المستضعفين من أبناء هذه الأمة الخيرة عيشة الرفض لكل ألوان الباطل والاصرار على التعلق بدولة الأنبياء والأئمة، بدولة الحق والعدل التي ناضل وجاهد من أجلها كل أبرار البشرية وأخيارها الصالحين).
            الى ان يبين آلية النظام الاسلامي – من وجهة نظره – في الحفاظ على الحاكمية الدينية، حيث يقول:
            (إن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، بمعنى أنها هي المصدر الذي يستمد منه الدستور وتشرع على ضوئه القوانين في الجمهورية الإسلامية، وذلك على النحو التالي:
            أولاً ـ إن أحكام الشريعة الثابتة بوضوح فقهي مطلق تعتبر بقدر صلتها بالحياة الاجتماعية جزءاً ثابتاً في الدستور سواء نص عليه صريحاً في وثيقة الدستور أو لا.
            ثانياً: إن أي موقف للشريعة يحتوي على أكثر من اجتهاد، يعتبر نطاق البدائل المتعددة من الاجتهاد المشروع دستورياً، ويظل اختيار البديل المعين من هذه البدائل موكولاً إلى السلطة التشريعية التي تمارسها الأمة على ضوء المصلحة العامة.
            ثالثاً ـ في حالات عدم وجود موقف حاسم للشريعة من تحريم أو ايجاب، يكون للسلطة التشريعية التي تمثل الأمة أن تسن من القوانين ما تراه صالحاً، على أن لا يتعارض مع الدستور، وتسمى مجالات هذه القوانين بمنطقة الفراغ، وتشمل هذه المنطقة كل الحالات التي تركت الشريعة فيها للمكلف اختيار اتخاذ الموقف، فإن من حق السلطة التشريعية أن تفرض عليه موقفاً معيناً وفقاً لما تقدره من المصالح العامة، على أن لا يتعارض مع الدستور).

            ثم يضيف:
            (ان السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية قد أسندت ممارساتها إلى الأمة، فالأمة هي صاحبة الحق في ممارسة هاتين السلطتين بالطريقة التي يعينها الدستور، وهذا الحق حق استخلاف ورعاية مستمد من مصدر السلطات الحقيقي وهو الله تعالى. وبهذا ترتفع الأمة وهي تمارس السلطة إلى قمة شعورها بالمسؤولية لأنها تدرك بأنها تتصرف بوصفها خليفة لله في الأرض فحتى الأمة ليست هي صاحبة السلطان، وإنما هي المسؤولة أمام الله سبحانه وتعالى عن حمل الأمانة وأدائها {إنا عرضنا الامانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان.
            والأمة تحقق هذه الرعاية بالطرق التالية:
            أولاً: يعود إلى الأمة انتخاب رئيس السلطة التنفيذية بعد أن يتم ترشيحه من المرجعية كما يأتي في الأمر الرابع، ويتولى الرئيس المنتخب بعد ذلك بنفسه تكوين أعضاء حكومته.
            ثانياً: ينبثق عن الأمة بالانتخاب المباشرة، مجلس وهو مجلس أهل الحل والعقد. ويقوم هذا المجلس بالوظائف التالية:
            أولاً ـ إقرار أعضاء الحكومة التي يشكلها رئيس السلطة التنفيذية لمساعدته في ممارسة السطلة.
            ثانياً ـ تحديد أحد البدائل من الاجتهادات المشروعة.
            ثالثاً ـ ملء منطقة الفراغ بتشريع قوانين مناسبة.
            رابعاً ـ الاشراف على سير تطبيق الدستور والقوانين ومراقبة السلطة التنفيذية ومناقشتها).



            تعليق


            • #7
              ج7

              الفصل بين الدولة وسيادة الاسلام:
              تتبنى بعض الاطروحات العلمانية فكرة يسمونها: (فصل الدين عن السياسة)، ويريدون بذلك ان تكون الدولة والنظام السياسي الذي يقودها بعيد عن الصبغة الدينية. أي ان العلمانيين يسعون لإنهاء أي صبغة دينية عن الدولة والمجتمع فضلاً عن الاقتصاد والتجارة والزراعة إلخ.
              وهذا الاتجاه ينتهج منهجاً سلبياً، فيعطّل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يكترث بمن يمتلك زمام السلطة وما يسنّه من قوانين، سواء كان من قوانينه اشاعة الربا في المصارف او منع الحجاب في المجتمع او اشاعة الخمور والملاهي إلخ، وهذا الطريق ينتهجه العامة من الناس، اولئك الذين لا يكترثون لأمر آخرتهم ويعيشون دنياهم بملذاتها المحرّمة. ومن المؤسف ان هذا الطريق انتهجته بعض القوى السياسية التي رفعت شعار (الدولة المدنية) والذي يعني ان لا تخضع مفاصل الدولة لأية صبغة اسلامية وأن لا تتسم بأي مظهر لها، أي ان لا تسن فيها اي قوانين مبنية على اساس ديني، كقوانين الاحوال الشخصية الشرعية وقوانين حرمة الربا وحرمة صنع واستيراد وبيع الخمور، وغيرها. إذن العلمانية تقف في مواجهة مباشرة مع سيادة الاسلام ورسوخه في الدولة والمجتمع، ولا يمكن بأي شكل من الاشكال التعايش معها. فكيف يزعمون أن الدولة لا دين لها، فيما نرى ان الدولة يجب ان ترعى الوجود الاسلامي وترسيخه وتسهر على ان تخضع القوانين والتشريعات الرسمية للدولة للشريعة الاسلامية في كافة مفاصل الدولة والمجتمع.

              بين النظرية والتطبيق:
              بعد ان استعرضنا المواقف النظرية على المستوى الفقهي فيما يخص الحاكمية والسلطة الدينية. وفي الكثير من الاحيان تتحكم الظروف الموضوعية للانظمة السياسية القائمة والمجتمعات في كيفية تقييم الفقيه المرجع لما يتوجب عليه من تحرك ضمن الاطار السياسي، وفي الكثير من الاحيان تفرض الظروف السياسية والاجتماعية طبيعة تحرك على المرجع هي أقل طموحاً وسعة مما هو ثابت نظرياً عنده على المستوى الفقهي، ولذلك في الكثير من الاحيان لا يصح ان يحكم على اسلوب الفقيه وتصريحاته على انها متطابقة مع نظريته الفقهية بل هي قد تكون الحد الادنى مما يتمكن من فعله عملياً.
              فعلى سبيل المثال، نقلت صحيفة المستقبل اللبنانية تصريحاً للسيد محمد رضا السيستاني قال فيه:
              (إن الظروف الراهنة في العراق غير مهيأة ،،، الظروف في العراق مختلفة، الإسلاميون يرون أنه لا يمكن تطبيق نظام الحكومة الإسلامية في العراق، اذكر إن المرجع الديني آية الله العظمى السيد عبد الأعلى السبزواري (قدس سره) والذي توفى بعد المرجع الديني آية الله العظمى السيد الخوئي (قدس سره) وكان أحد المراجع الأجلاء ومع ولاية الفقيه قال: (عندما تكون الأمور مهيأة يتم تطبيقها)... أن الظروف في العراق غير مهيأة (لتطبيق الحكومة الإسلامية))[67].

              الامـة مصــدر القـــوة:
              وهذا يعني ان الامة بمجموعها هي المسؤولة عن تحقيق الوجود الاسلامي وترسيخه في الدولة والمجتمع عبر الجهود الفردية والجماعية لأفرادها.
              وهناك من يرى ان جهود الامة الجماعية والفردية يجب ان تنصبّ نحو تسلّم السلطة التي من خلالها يتمكن المؤمنون الحاكمون فيها من ترسيخ الوجود الاسلامي في الدولة والمجتمع. وهنا يبرز اسلوبان احدها الذي ذكرناه من اتخاذ السلطة وسيلة لترسيخ الاسلام وهو ما تنتهجه الاحزاب والتنظيمات الاسلامية الحركية عادةً. بينما الاسلوب اآخر هو اسلوب المرجعيات الدينية بصورة عامة والتي تنتهج اسلوب نشر الفكر الاسلامي والتدين بين افراد المجتمع، ومن خلال تكوين المجتمع المؤمن يتم الضغط على السلطات الحاكمة الطاغوتية لترسيخ قيم الاسلام في الدولة والمجتمع وتحقيق بعض المطالب في هذا الاتجاه بحسب الظروف والتمكين. وحتى السيد الخميني قبل سنة 1970م كان ينتهج هذا المنهج وكانت مطالبه في ثورة 15 خرداد سنة 1963م تتمثل بإلغاء الثورة البيضاء التغريبية التي اعلنها الشاه المقبور آنذاك. بل وحتى في احداث الثورة الاسلامية سنة 1978م نجد ان منهج السيد الخميني لم يتغير ، غاية ما في الامر ان الشعب الايراني بلغ درجة عالية من النضج الايماني بحيث مكّن الفقيه المرجع من المطالبة برحيل الحاكم المستبد الطاغوت.
              يقول الشيخ محسن الآراكي:
              (ان الدور الحقيقي الذي يمكن لإرادة الجماهير أن تلعبه في تكوين السلطة هو: تكوين الإرادة الغالبة التي تتبلور فيها قوّة السلطة وقدرتها التي بها توجد، وبها تستمر وتدوم، فإنّ تراكم الإرادات الفردية انسجامها يمكن ان يؤدي بطبيعته الى تكوين الإرادة الغالبة، والإرادة الغالبة هي التي توجد السلطة وتديمها، ولا يمكن لأية إرادة أن تكون صاحبة السلطة الفعلية في المجتمع – مهما اتّصفت به من عناصر القوّة الذاتية والرشد والكمال – ما لم تتمكّن من الهيمنة على مجموعة من الإرادات الفردية، وتوجيهها توجيهاً يخلق منها إرادات متراكمة منسجمة، ثم تبلغ بها المستوى الذي تكون به الإرادة الغالبة في المجتمع)[68].
              ويقول السيد محمد الحيدري:
              (ففي احد الايام واوائل انتصار الثورة الاسلامية الايرانية حاول السيد الشهيد الصدر ان يقارن بين فعل علماء طهران في ذلك الوقت وفعل علماء بغداد، فذكر ان عدد العلماء والخطباء والوكلاء في طهران في فترة الثورة الاسلامية يقدر بخمسين الفن بينما لا يتجاوز عددهم المائة في بغداد، ولهذا استطاع علماء طهران من توعية الامة وتعبئتها وربطها بالمرجعية، وبخلافه في بغداد حيث قلّة العلماء وقلة التعبئة وضعف ارتباط الامة بالمرجعية، ثم قال السيد الشهيد سوف ندفع ضريبة هذا النقص الذي يتحمله الجميع وهو ثمن باهض)[69].



              مشكلة الخلافة من السقيفة حتى اتاتورك:
              ولدت الخلافة كسلطة سياسية منذ اجتماع السقيفة، وهذه الخلافة يمكن اعتبارها أول قانون وضعي يخالف القانون الشرعي حيث ان الله سبحانه وتعالى قد امر نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله) بتنصيب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وصياً وخليفة لرسوله (صلى الله عليه وآله) وإماماً للامة. فكانت الخلافة السياسية جزءاً من وظيفته كوصي (صلوات الله عليه) غير ان ما تمخض عن اجتماع السقيفة هو فصل الخلافة السياسية عن وظيفة الإمامة، وجعلها هي رأس الامة وقيادتها بدلاً من الإمامة.
              ومنذ أول ثورة اسلامية في تأريخ المسلمين، وهي التي قامت على الخليفة عثمان بن عفان، عندما نهضت الجماهير المؤمنة رافضة الاذعان لتسليط الخليفة لبني امية على رقابهم ومقدراتهم، واستلابهم لثروات الامة، ونجاح تلك الثورة بتغيير السلطة الحاكمة والاتيان بحاكم عادل هو أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام)، ثم توالي الاحداث واستلام معاوية السلطة بعد الصلح المعروف. بدأت سياسة بني امية في استلاب إرادة الامة، من خلال إغتيال قادتها، وتهجير الجماعات النشطة الحركية فيها، وإغراء الآخرين بالمال والجاه. ونجحوا في ذلك نجاحاً كبيراً لولا النهضة الحسينية الخالدة التي هزّت الضمير الاسلامي وزرعت الإرادة في داخل المسلمين، ودفعتهم للإنفلات من عبودية بني امية بأسم الحسين (عليه السلام) والانتصار لآل البيت الاطهار (صلوات الله عليهم). ثم استلم بنو العباس السلطة وساروا بالمسلمين نفس السيرة الاموية البغيضة إن لم يكن أشنع وأكثر قهراً ! وربطوا مصير الامة الاسلامية بمصير حاكميها المدّعين للشرعية من خلال عنوان الخلافة الملكية ! حتى غدت السلطة والخلافة الملكية شيئاً واحداً.
              ومضت قرون تطبعتْ الامة فيها على الخلافة الملكية وتوارث السلطة التي يتولاها بغير حق شرعي النبهاء والحمقى. حتى ترسخت الخلافة في شخصية الامة الاسلامية، وحتى إذا إنهارت الخلافة العباسية على يد هولاكو المغولي، شعرت الامة بالضياع وبصدمة افقدتها توازنها لبرهة ! ويصف ابن الأثير سقوط الخلافة ببغداد على يد المغول والالام التي كانت تكتنفه، والتي تعبر عن شعور عام لدى الأمة الاسلامية في ذلك الوقت، فيقول:
              (لقد بقيتُ عدّة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها كارهاً لذكرها، فأنا أقدِّم إليه رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيا، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول هذا الفعل يتضمن الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقت الأيام والليالي عن مثلها عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها)[70].
              وفي سنة 659 هـ ، 1260م اي بعد ثلاث سنوات، تم تنصيب خليفة عباسي جديد في القاهرة بأسم المستنصر بالله، اي بعد ثلاث سنوات من نهاية الخلافة في بغداد، واستعادت الامة جزء شخصيتها الذي طمسه هولاكو، بإستعادتها لنظام الخلافة وإنْ كان صورياً شكلياً لا أثر له في حياة الأمة !
              يقول الدكتور علي محمد الصلايبي:
              (الدور الرمزي للخلافة العباسية: تأكد الدور الرمزي والعاطفي للخلافة العباسية، فقد كان إحياء الخلافة العباسية في القاهرة سنة (659هـ/ 1261م) بمثابة الحل السعيد الذي وجده السلطان الظاهر بيبرس لإضاء الشرعية على دولته العسكرية التي قامت بدور هائل في تصفية الوجود الصليبي، وقد أثبتت الاحداث طوال عصر سلاطين المماليك أن الخلفاء العباسيين في القاهرة لم يكن لهم من الخلافة سوى أسمها، كما تحددت إقامة معظمهم بحيث كان أقرب الى الاعتقال).[71]
              ورغم ان الخليفة الجديد كان كالكثير من الخلفاء العباسيين البغداديين السابقين ليس له سلطة سوى الاسم والمظهر، الا ان هذا كان يرضي الامة الاسلامية الهشة التي ارتضيت منذ السقيفة التخلي عن الخلفاء الشرعيين والسير وراء خلفاء الجور والضلال، وارتضت ان يتحول اغتصاب السلطة إلى جزءٍ من فقههم السياسي الديني ! فكانت هذه الامة تقبل بمظهر الخلافة الصوريّة الذي انتقل من السلطة العباسية في القاهرة الى السلطة العثمانية بعد استيلائهم على مصر، فتنازل آخر خليفة عباسي في مصر محمد المتوكل عن الخلافة الى السلطان العثماني سليم الاول ليصبح اول خليفة عثماني، واستمرت الخلافة في بني عثمان الى ان ارسلها مصطفى كمال اتاتورك الى متاحف التاريخ.
              فلم يكن إصدار مصطفى كمال اتاتورك لقانون الغاء الخلافة في يوم الاثنين 3 آذار/ مارس 1924م، مجرد انقلاب على الخلافة العثمانية وآخر سلاطين الدولة وحيد الدين محمد السادس، بل كان تأثير ذلك على المسلمين في مختلف بقاع الارض يقرب من تأثير القنبلة النووية التي ضربت هيروشيما، ولا نبالغ، فلقد كان إسقاط اتاتورك للخلافة هو إدخال لغالبية الأمة الاسلامية في دوامة ضياع الخلافة وضياع شخصيتها الدينية الاعتبارية التي كانت تستظل بظلها قرون طويلة ! بداية للصراع بين القوى الدينية والقوى العلمانية حول محورية الاسلام ورسوخه وسيادته. وقبل ذلك لم تكن هناك حاجة ماسّة لإنطلاق ذلك الصراع حيث ان الخلافة كانت الضامنة لبقاء واستمرار سيادة الاسلام في السلطة والمجتمع.
              وسبق للشيعة الامامية ان تعرضوا لموقف مماثل ولكنه أقل حدّة نظراً لحكمة إمامهم الحجة بن الحسن (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف) الذي تدرج في تركهم عبر الغيبة الصغرى لمدة 70 سنة يتواصل معهم خلالها عبر نوابه الاربعة ، عثمان بن سعيد وابنه محمد والحسين بن روح والسمري، الى ان اعلن لهم بداية الغيبة الكبرى بموت آخر نوابه السمري، ولذلك فحينما تيتّم الشيعة بحدوث الغيبة الكبرى كان وطأة حدوثها عليهم أقل تأثيراً عليهم لأن حياتهم كانت اكثر انتظاماً وعلمائهم حاضرون، والشيخ الكليني (رحمه الله) قد جمع في كتابه (الكافي) اصول الروايات من حوالي 400 أصل روائي، وعلمائهم يذودون عن المذهب بالحجج الرصينة عبر علم الكلام وتأسيس الفقه ومناهجه. ورافق ذلك انهم تحصنوا بروايات اهل البيت (عليهم السلام) ولاسيما تلك التي تبين أنَّ كلَّ راية ترفع قبل قيام القائم (عجّل الله فرجه الشريف) هي راية ضلال، فلم يكن لديهم مطمع في السلطة، ولا لدى الحاكم الظالم خوف منهم على سلطانه، ولاسيما بعد غياب إمامهم (صلوات الله عليه)، وهي ميزة دعمت واسندت خطاهم ومسيرتهم اليومية والتاريخية. ويساند الشيعة الامامية ان مذهبهم ووجودهم في عصر حضوم المعصوم (عليه السلام) وعصري الغيبتين الصغرى والكبرى، يعتمد على قدراته الذاتية وخواصه وصفاته ورعاية الامام المعصوم (عليه السلام) له في البقاء والحضور والانتشار في المجتمعات الاسلامية المتعددة. فلم يكن يحتاج لدولة تدعمه او تسنده، وهذا ما ميزه عن مذاهب أهل السنة التي كانت تستظل بعباءة الخلافة قرون عديدة، وفجأة وجدت نفسها عارية عن الغطاء "الديني- السياسي" الذي تلوذ به ! فأصبح جمهور اهل السنة أيتاماً للخلافة يوم 3 آذار/ مارس 1924، فجأةً، حيث فقدوا الحصن "السياسي- الديني" الذي يجمعهم ويأويهم، الخلافة التأريخية الممتزجة بشخصيتهم الدينية والاعتبارية، منذ خلافة ابي بكر بن ابي قحافة، والى نهاية خلافة السلطان العثماني محمد السادس. فلم يحدث فراغ طويل في النظام السياسي منذ اكثر من 1300 سنة من تاريخ المسلمين[72]. فكان الانهيار الفجائي لنظام الخلافة، وظهور العداء الواضح للاسلام واللغة العربية في عهد مصطفى كمال اتاتورك، واستيلاءوات الحلفاء على البلاد العربية بعد ان خسر العثمانيون في الحرب العالمية الاولى. كل ذلك ادى الى فقدان الشعوب الاسلامية لتوازنها. وكان اول رد فعل على انهيار الخلافة ظهور حركة الاخوان المسلمين سنة 1928م في الاسماعيلية بمصر، ثم تلتها بسنوات عديدة ظهور حزب التحرير سنة 1953م في القدس. ، اللذان يحلمان باستعادة احلام الخلافة، ولهما اليوم انصار يقدر عددهم بالملايين ! وما زال حلمهما بعودة نظام الخلافة الى عالم السياسة مجرد اضغاث. بل قد تحول حِلم الخلافة الى اداة بيد الوهابيون الارهابيون لتمرير أفكارهم وأرهابهم وخداعهم لقواعدهم الشعبية لدرجة انهم اعلنوا أمير داعش ( التي يسمونها الدولة الاسلامية في العراق والشام) ابو بكر البغدادي خليفة على المسلمين واجب الطاعة على كل المسلمين ! وهكذا انتهت الخلافة التي سُلِبَتْ في سقيفة بني ساعدة عن الامامة، وأصبحت أداة للطواغيت للاستئثار بمقدرات الامة وخيراتها وثرواتها، انتهت اخيراً لتكون اداةً بيد الارهابيين لبسط نفوذهم على جميع المسلمين من اهل السنّة ! وما ذاك إلا لأن الخلافة لا يتمكن من النهوض بأعبائها على الوجة الاكمل والأتم سوى الامام المعصوم (عليه السلام)، ولذلك لا نبالغ إذا قلنا أن الله سبحانه وتعالى انزل الاسلام ونص معه على قيادته المعصومة، وانه لا يمكن تطبيق الاسلام كما انزله الله تبارك وتعالى إلا بوجود تلك القيادة المعصومة أو في ظلها.
              امّا الشيعة الامامية الاثنا عشرية، ورغم مرور مئات السنين وهم يعيشون في عصر الغيبة الكبرى، وقد تصدى علمائهم للمرجعية والنيابة العامة للامام (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف). إلا أن بعضاً من مثقفيهم قد تأثر نفسياً بالجو العام لفقدان الخلافة عند اهل السنة الذين يشكلون غالبية العالم الاسلامي عدداً. ورغم إيمان الشيعة بحتمية إنتهاء عصر الغيبة الكبرى يوماً ما، والظهور لإمامهم الغائب (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف) الذي سيقود العالم كله ويرسي العدل والامان في كل أرجاء الارض، إلا ان ذلك لم يمنع البعض منهم من التفكير في تأسيس دولة دينية شيعية! وفي مقدمة الذين اتجهوا هذا الاتجاه منظمة الشباب المسلم في النجف الاشرف (1940- 1985)م، ومن اسمها يتضح التقارب والتأثر لهذه الحركة مع حركة الاخوان المسلمين، فلأول مرة يظهر بين الشيعة من يطالب بتأسيس دولة اسلامية شيعية! والظاهر ان هذه الحركة لم تنل رعاية المرجعية الدينية في النجف الاشرف إذ إن فكرها المستورد من الاخوان المسلمين فكر غريب على الوسط الشيعي. ثم ظهر في سنة 1953م حزب التحرير الذي أسسه الشيخ تقي الدين النبهاني بعد انشقاقه من حركة الاخوان المسلمين، وهذا الحزب متمسك بموضوع اعادة الخلافة ولا يقبل اي نظرية رأسمالية او ماركسية ، ولا يتقبل الديمقراطية ولا بأي نظرية اخرى سوى عودة الخلافة الاسلامية على النمط العثماني والعباسي والاموي !!
              ثم ظهر حزب الدعوة الاسلامية في حوالي سنة 1957م الذي يتضح من خلال دراسة ظروف تأسيسه ومؤسسوه تأثره بحركة الاخوان المسلمين وحزب التحرير. وقد صرّح السيد محمد باقر الحكيم (رحمه الله) ان لحركتي الاخوان المسلمين وحزب التحرير امتداد في الوسط الشيعي[73]، كما ان المهندس محمد هادي السبيتي الذي ترأس حزب الدعوة الاسلامية منذ سنة 1963 والى اعتقاله سنة 1981م ثم اعدامه سنة 1988م، كان في فترة الخمسينيات قد انتقل من الانتماء لحركة الاخوان المسلمين الى قيادة حزب التحرير (ولاية العراق) بحسب تعبيرهم[74]، ثم الى الانتماء الى حزب الدعوة الاسلامية ثم قيادته.
              ويذكر صلاح الخرسان ان الكوكبة الاولى المؤسسة لحزب الدعوة الاسلامية من طلبة الحوزة الدينية في النجف الاشرف وثلة من المتدينين، بعضهم من المتاثرين بأفكار الشيخ محمد رضا المظفر ومن خريجي مدرسته (منتدى النشر)[75]. وكما هو معلوم فإن الشيخ محمد رضا المظفر والشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء والسيد الخميني ينتمون فكرياً الى مدرسة ملا صدرا "الفلسفية- العرفانية"، وقد بينّا في بحث سابق ان هذه المدرسة انتجت البذور الفكرية للنظرة الفقهية القائلة بولاية الفقيه العامة، من خلال ما يعرف بنظرية "الانسان الكامل"[76]، وهو عامل آخر يضاف الى عامل الاجواء الحركية الاسلامية التي سادت في تلك الفترة بفعل انهيار نظام الخلافة العثمانية وظهور حركة الاخوان المسلمين، واشاعة المطالب في ضرورة تأسيس دولة اسلامية، ولاسيما مع التكالب الاستعماري على بلاد المسلمين واستعمالهم العملاء العلمانيين في ادارتها. فمن الطبيعي وسط هذه الاجواء الفكرية والسياسية والحركية ان يظهر من وسط مدرسة ملا صدرا الصوفية العرفانية مرجع ديني يؤمن بضرورة تكوين الحكومة الاسلامية وتأسيس الدولة الاسلامية، فكان ذلك المرجع هو السيد الخميني.

              تعليق


              • #8
                بسم الله الرحمن الرحيم
                السلام عليكم
                اخي الفاضل انا اعرف ان السيد الصدر لقب بالإمام قبل السيد الإمام الخميني قدس سره
                فلقب الإمام سابق على ولاية الفقيه.
                ولقب الإمام عند المصريين ليس للتسقيط بل لأنهم يعتبرونه كذلك
                فلقب الإمام عندهم غير الأمام المعصوم عند الشيعة.
                فعندهم الإمام الشافعي والإمام الحنبلي والإمام الحنفي وا لإمام المالكي
                فهؤلاء عندهم ائمة لوصولهم إلى مراتب عليا وهذا هو مقصد المصريين.

                تعليق


                • #9
                  ج8

                  ويتحدث الشيخ علي الكوراني عن بدايات حزب الدعوة الاسلامية وعلاقة بعض مؤسسيه بالاخوان المسلمين وحزب التحرير فقال في كتابه (الى طالب العلم):
                  (يجب أن نشهد بأن الشخصية الأولى في تأسيس الدعوة هو أبو عصام ! فهو الذي بدأ طرح الفكرة على أبي حسن السبيتي ، والسيد مهدي الحكيم ، والسيد محمد باقر الصدر ، وغيرهم ، حتى لو كانت قبل ذلك في أذهانهم ، وهو الذي كان يتابع الأمر ويجمع الشخصيات ، وينسق الوقت والمكان ، ويدير الحديث ويبتكر الحلول لتقريب وجهات النظر. ثم كان هو الذي يتابع تنفيذ المقررات ، فبعد أن أنهوا مداولاتهم واتفقوا على بدء العمل ، بدأ أبو عصام بالعمل، فكلف السيد الصدر بكتابة الأسس ، وبدأ بمفاتحة الأشخاص وتشكيل اللجان ، فأعطى مجموعة للشيخ عبد الهادي الفضلي ، ومجموعة للسيد محمد باقر الحكيم ، ومجموعة للسيد عدنان البكاء ، ومجموعة للسيد طالب الرفاعي ، ومجموعة للحاج محمد صالح الأديب في كربلاء ، ومجموعة للشيخ عارف في البصرة. وهو الذي هيأ (رونيو) وهو شبيه بجهاز التصوير ، وكان اقتناؤه يومها جريمة ! ثم اشترى أبو عصام طابعة ، وجعلها في بيت السيد عدنان البكاء ، ثم طلب السيد عدنان إعفاءه ، فتبرعت أنا ونقلناها الى بيتنا ، وكان يطبع عليها الأخ عبود مزهر . وكانت الطابعة ، وكل جهاز نسخ وتكثير ، مواد جرمية كالسلاح وأشد !).

                  وقال ايضاً:
                  (كان أبو عصام شخصية عجيبة ، فمع أنه لايملك إلا شهادة ثانوية ، لكنه كان واسع الثقافة كثير المطالعة ، وكل ثقافته بجهده الشخصي ! والأهم من ثقافته قوة شخصيته وفكره ، وقوة حضوره في أي مجلس أو عمل يقوم به ، وقدرته على الحوار ، والإقناع ، وطول نفسه على التجزئة والتحليل ، فكان الجميع يحسبون حساباً لآرائه وإشكالاته المنطقية. وقد أخبرني أبو حسن السبيتي أنه كان يتردد عليه في بغداد، أيام كان أبو حسن في حزب التحرير ، وأن أبا عصام التقى بالشيخ تقي النبهاني مؤسس حزب التحرير ، وجرى بينهما نقاش مقتضب ، فقد اعتقل النبهاني في العراق في زمن عبد الكريم ولم يعرفوه ، وغادر الى لبنان وبقي فيها متخفياً ، حتى توفي سنة 1977، ودفن في بيروت باسم آخر. ثم التقى أبو عصام مطولاً بخليفة النبهاني الشيخ عبد القديم زلوم. ويظهر أن أبا عصام أثَّر على أبي حسن السبيتي ، فترك حزب التحرير واتجها الى تأسيس تنظيم الدعوة، وكان أبو حسن يثق بفكره ورأيه الى حد كبير، ويسميه صاحب النجف ! فكان أبو عصام زميله، وبمنزلة أستاذه.
                  وعندما كتب الشيخ تقي النبهاني كتابه «الخلافة» الذي سموه فيما بعد «نظام الحكم في الإسلام» أرسله الى النجف ، فرآه السيد الصدر وأبدى عليه ملاحظات شفهية، ورأيته كتيباً في نحو مئة صفحة بالقطع العادي، وتعجبت من أنه لايتضمن آلية لنصب خليفة في عصرنا، وأنه ليس فيه رأس سطر ولا نقطة ولا فاصلة ! فقلت: هذا كتابٌ كله سطر واحد ! فأعجبت كلمتي السيد الصدر، وكان يعيدها ويتبسم !
                  وأراد زلُّوم وبعض جماعته أن يأتوا الى النجف ليبحثوا إشكالات علمائها على الكتاب، فقرر أبو حسن والسيد الصدر أن يجلس معهم أبو عصام، ورأيته قبل الجلسة وقد دون ملاحظاته على عدد من صفحات الكتاب. وجلس معهم تلك الليلة وناقشهم حتى تعبوا ، وكان أبو حسن يقول: ناقشهم أبو عصام حتى أعجزهم ، وتعب بعضهم وغلب عليه النوم !)[1][77].

                  وقال ايضاً في موضع آخر:
                  (كان أبو عصام معجباً بالإخوان المسلمين وفكرهم أكثر من حزب التحرير، وكان يميل أكثر الى منهج حزب التحرير في التحليل السياسي. أما في الفكر التنظيمي فكان يرى أن الشيوعيين متقدمون فيه أكثر من غيرهم، وكان ينتقد الوضع التنظيمي للإخوان في عهد الصواف، ثم في عهد الدكتور عبد الكريم زيدان، وينتقد الوضع التنظيمي لحزب التحرير عند الشيخ تقي النبهاني، ثم عند الشيخ عبد القديم زلوم. ولذلك حرص على أن تكون في ثقافة الدعوة وتنظيماتها حسنات هؤلاء جميعاً، وأن تتجنب نقاط ضعفهم، فأشبهت ثقافتها ثقافة الإخوان بل تبنت عدداً من كتب الإخوان للتدريس في حلقاتها، مثل شبهات حول الإسلام لمحمد قطب ، ومعالم في الطريق لسيد قطب.
                  وقد كتبت يومها إشكالات على كتاب معالم في الطريق خاصة على عنوان «الإنحراف» وناقشت بعضهم فيه.. فلم يرض بذلك أبو عصام وأبو حسن السبيتي وقال: نحن بحاجة الى نقد الفكر الجامد لا نقد الفكر الحركي.. ولا مجال هنا للإفاضة في هذا الحديث)[2][78].
                  وقال ايضاً في موضعٍ تالٍ:
                  (وذكر أن السيد طالب الرفاعي كان على علاقة بالشيخ عارف البصري والسبيتي وهما في حزب التحرير ، وأن الشيخ عارف جاء الى النجف ليفتح فرعاً لحزب التحرير ، فناقشه السيد مهدي ليثنيه عن ذلك.
                  وذكر السيد مهدي أنه التقى في الكاظمية بفلان ويقصد أبا حسن السبيتي ، وكان متخرجاً يومها من الجامعة (هندسة كهرباء) وناقش معه إنشاء تنظيم بدل عمله مع حزب التحرير ، فوجد منه تجاوباً.
                  وكل ذلك صحيح، لكن ينبغي التنبيه الى أن هذه المفردات كانت بعد ثورة 14تموز وبدء موجة الشيوعيين، وأن المحرك الأساسي لهؤلاء كان أبو عصام ! ويكفي أن نعرف أن كبيرهم السبيتي كان يعامل أبا عصام كأنه أخوه الأكبر وأستاذه ، مع أنهما في سن واحدة. أما الشيخ عارف فكان أصغر منهما سناً ، وكان السبيتي في حزب التحرير مسؤوله أو بمثابة مسؤوله. وأقدر أن أبا عصام هو الذي أقنع الشيخ عارف أن يستفتي السيد الحكيم في بقائه في حزب التحرير، فقد سمعت الشيخ عارف يقول: أنا خرجت من حزب التحرير بفتوى السيد الحكيم. ولعل تفكيره بفتح فرع لحزب التحرير كان في سفرة سابقة الى النجف. فقد كان الشيخ عارف يومها في البصرة ، ثم جاء الى النجف ، وانتسب الى كلية الفقه ولبس العمامة ، ولما أكملها ذهب الى بغداد عالماً في منطقة الزوية وكان أبو عصام مهتماً بأموره. ومن صفات أبي عصام أنه لايتبجح بأعماله ، بل يحرص على سترها لكي تسير الأمور بشكل جيد . وكم من ابتكار واقتراح له على السيد الصدر ، والسيد مهدي الحكيم ، أخذ طريقه الى العمل ، ولم يقل إنه منه)[3][79].

                  ويقول الشيخ الكوراني في كتابه (الحق المبين في معرفة المعصومين):
                  (كنت يوماً أقرأ في روضة الكافي حديثاً عن الإمام محمد الباقر عليه السلام يفسر قوله تعالى : أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شئ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ . ( سورة الأنبياء : 30 ) يقول فيه الإمام الباقر عليه السلام : (إن الله تبارك وتعالى لما أهبط آدم إلى الأرض كانت السماوات رتقاً لا تمطر شيئاً ، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت شيئاً ، فلما أن تاب الله عز وجل على آدم أمر السماء فتقطرت بالغمام ، ثم أمرها فأرخت عزاليها ، ثم أمر الأرض فأنبتت الأشجار وأثمرت الثمار وتفهَّقت بالأنهار ، فكان ذلك رتقها ، وهذا فتقها) . قرأت ذلك فقلت في نفسي : ما اغبانا ! ركضنا وراء ثقافة الاخوان المسلمين وابتعدنا عن ثقافة أهل البيت الطاهرين (عليهم السلام) الذين عندهم علم الكتاب ! لقد مضى علينا سنين ونحن نأخذ بقول سيد قطب وأمثاله، ونفسر الآية في تدريسنا ومحاضراتنا بأن السماء والارض كانتا قطعة واحدة ففصلهما الله تعالى الى ارض ونجوم وكواكب ... إلخ. تأملْ في الآية لتراها تنطق بصحة تفسير الامام الباقر (عليه السلام) لأن المخاطب فيها الكفار لينظروا فصول السنة، وموضوع الآية نظام التبخير والامطار، ولا علاقة له بفصل الارض عن السماء، فانظر الى قوله: ((ففتقناهما وجعلنا من الماء .. !)). الى ان يقول في ص23: (وقد ذكر سيد قطب تفسير الآية بفتق الأرض عن السماء في عدة مواضع من تفسيره : قال في أحدها (ص 2376) : ( وقد يشير القرآن أحياناً إلى حقائق كونية كهذه الحقيقة التي يقررها هنا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما ، ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن ، وإن كنا لا نعرف منه كيف كان فتق السماوات والأرض أو فتق السماوات عن الأرض ، ونتقبل النظريات الفلكية التي لا تخالف هذه الحقيقة ) . انتهى . وقد أخذه سيد قطب من مفسري الدولة الأموية . (نسبه الطبري : 17 / 25 ، إلى الحسن وقتادة ومجاهد ، ونسبه الرازي إلى كعب الأحبار ، كما في البحار : 54 / 14).
                  إن تفسير هذه الآية ما هو إلا نموذج بسيط ليس فيه معاناة تذكر ، لكن المعاناة كانت عندما تصطدم النصوص التي نقرؤها بتصورنا الذي غرسناه في أذهاننا عن الأئمة عليهم السلام ! فكم فكرت في مشروع فهمهم عليهم السلام الذي تبنيناه في الحركة الإسلامية ، فلم أستطع تطبيقه على نصوص سيرتهم عليهم السلام ، ولاعلى أصول فعل الله تعالى العليم بعلمه المطلق ، الحكيم بحكمته المطلقة)[4][80].

                  وربما تعاضدت عدّة عوامل ساهمت في اتجاه بعض القوى الحركية الشيعية نحو التفكير بإقامة دولة دينية على النمط السُنّي والتأثر بأفكار جماعة الاخوان المسلمين المصرية ! منها:
                  1.ابتعاد المرجعيات الدينية الشيعية عن العمل السياسي بسبب نفيهم الى ايران في حكومة عبد المحسن السعدون ومن ثم قبولهم بالعودة الى النجف الاشرف مقابل الاشتراط عليهم بعدم التدخل في السياسة. ورغم ان المرجعيات الشيعية كانت تنتهز أية فرصة لتوجيه العمل السياسي القائم في الساحة نحو الاصلح، كما حدث من قبل مرجعية السيد ابو الحسن الاصفهاني (رضوان الله عليه) أيام ثورة مايس 1941م. ولكن الجو العام اليومي لمنهج المرجعيات الدينية الشيعية هو جو غير سياسي.
                  2.استغلال القوى الاستعمارية لنفوذها في بلاد المسلمين من اجل اضعاف ثقة الجماهير المؤمنة بالمرجعيات الدينية لكي تضع اسفين بين المرجعيات الدينية وقواها الشعبية التي تشكل اداتها للتحرك ضد الاستعمار كما حصل فعلاً في ثورة العشرين الخالدة. ولذلك كانت الشائعات والانتقادات المبرمجة نحو المرجعيات الدينية ودورها السياسي والديني تنطلق بين الجماهير المؤمنة لتفقدها الثقة بالقيادة المرجعية للامة ! وانجرفت بعض التنظيمات والحركات الاسلامية وراء تلك الافكار لدرجة انها اخذت تبحث عن التحرك الاسلامي بعيداً عن رؤية المرجعيات الدينية وإطارها.
                  3.تعرض المجتمع الاسلامي لغزو الافكار العلمانية والماركسية وانتشار السفور بشِدّة وبصورة غير مسبوقة، مما دفع جموع المؤمنين لفقدان الثقة بانفسهم وبمقدرتهم على تغيير الواقع بالطرق التقليدية، وسعوا الى التأثر بفكرة التغيير الشامل والذي يكون تغييراً سريعا قد يعطي مفعوله بوقت أقصر من طريق الايمان الذي تنتهجه المرجعيات الدينية بصورة تقليدية منذ مئات السنين. ولا يكون ذلك التغيير الشامل والسريع عندهم سوى من خلال تبني فكرة قيام دولة دينية تعود لِلَم شمل جميع المسلمين وترسيخ القيم والمفاهيم الاسلامية في المجتمع من خلالها، والقضاء على التوجهات والافكار العلمانية والماركسية وانتشار السفور والملاهي ومحلات الخمور. ولذلك لم يجد بعض الحركيين الاسلاميين الشيعة بُدّاً من القبول بعودة دولة خلافة سنية تحقق للمجتمع الخلاص من الافكار المضادة للدين المتمثلة بالعلمانية والماركسية، فدخل بعض الشيعة في بعض التنظيمات السنية من قبيل جماعة الاخوان المسلمين وحزب التحرير ، او تبني افكارها او التاثر بافكارها. وابرز الذين انتموا للاخوان المسلمين وحزب التحرير او تأثروا بهما هم بعض القيادات المؤسسة لحزب الدعوة الاسلامية، وابرزهم أبو عصام (عبد الصاحب دخيل) والمهندس السبيتي، وغيرهما. إذن كان بعض الشيعة ينتمون لحركات سنية تطالب بعودة الخلافة لكونها الباب الى عودة القيم الاسلامية في المجتمع ولاسيما القيم الاخلاقية.
                  كتب نبيل الحيدري:
                  (تأسست مجموعة من الأحزاب والحركات والمنظمات السياسية الإسلامية قبل تأسيس حزب الدعوة منها (منظمة الشباب المسلم) لعزالدين الجزائرى عام 1940 فى النجف وشعارها (مجتمع إسلامى ودولة إسلامية) ومجلتها (الذكرى) وقد انشق عنها محمد صالح الحسينى ثم اعتقل ثم خرج من السجن فذهب إلى بيروت واشترك مع منظمة فتح فى الحروب الأهلية حتى قتل عام 1980 فى بيروت وقبله اعتزل الجزائرى العمل السياسى والإجتماعى، و(حركة الإخوان المسلمين) عام 1948، والحزب الجعفرى عام 1952 بقيادة محمد صادق القاموسى وعبد الصاحب دخيل (أبو عصام) وانحل بعد سنة من تأسيسه، ثم منظمة المسلمين العقائديين للجزائرى عام 1954 ثم حصلت إنشقاقات عديدة تفرع عنها تنظيم الحركة الإسلامية، وشباب العقيدة والإيمان لمحمد على المرعبى عام 1957، وحزب التحرير وهو انشقاق عن حركة الإخوان المسلمين، ومن أهم رجاله عبد العزيز البدرى، ومحمد هادى عبد الله السبيتى (أبو حسن) من الكاظمية. لاشك أن تأسيس الأحزاب الدينية فى العراق قد تأثر بحركة الأحزاب الدينية فى الوطن العربى بل بعضها امتداد لأصلها فى تلك الدول مثلا حركة الإخوان المسلمين فى مصر عام 1928 بزعامة حسن البنا لذلك أسس أول فرع لها فى العراق هو فرعها فى الموصل عام 1948 بقيادة عبد الله نعمة، كذلك حزب التحرير الذى أسسه فى القدس تقى الدين النبهانى عام 1953 وهو انشقاق حقيقى عن الإخوان مطالبا بإرجاع الخلافة الإسلامية وضرورة إقامتها فى الدول الإسلامية وبقى النبهانى أميرا لها حتى وفاته عام 1977. وقد تأثر حزب الدعوة بهذه الحركات خصوصا الإخوان والتحرير علما أن بعض قياداتها كطالب الرفاعى والسبيتى والصابونى كانت مرتبطة تنظيميا بها)[5][81].


                  [1][77] الى طالب العلم / الشيخ علي الكوراني العاملي - ص277 و278.

                  [2][78]الى طالب العلم / الشيخ علي الكوراني العاملي - ص279 و280.

                  [3][79]الى طالب العلم / الشيخ علي الكوراني العاملي - ص282 و283.

                  [4][80]الحق المبين في معرقة المعصومين (عليهم السلام) / الشيخ علي الكوراني العاملي / الطبعة الثانية، مزيدة ومنقحة، 2003م – ص21.

                  [5][81] مقال بعنوان (حزب الدعوة الإسلامية فى الميزان-الحلقة الأولى)، بقلم نبيل الحيدري، منشور في الموقع الالكتروني العالمية، بتاريخ 10/7/2011م.

                  تعليق


                  • #10
                    ج9

                    والشيخ عز الدين الجزائري المذكور، هو ابن الشيخ محمد جواد الجزائري احد مؤسسي (جمعية النهضة الاسلامية) في النجف الاشرف. وقد كتبتُ في بحث سابق النص التالي عن هذه الجمعية:
                    (في أواخر سنة 1917م تشكلت في مدينة النجف الاشرف "جمعية النهضة الاسلامية" من قبل مجموعة من علماء الدين كان في مقدمتهم السيد محمد علي بحر العلوم (رئيس الجمعية) والشيخ محمد جواد الجزائري (نائب الرئيس) وهما اللذان وضعا الاسس الفكرية والسياسية للجمعية وحددا خطوطها العامة في التحرك والعمل على أساس العقيدة الاسلامية. وقد اعتمدت الجمعية الاتجاه الاسلامي صفة أساسية في تحديد هوية الاعضاء الذين ينتمون إليها ، لذلك لم تُدخِل في عضويتها الاشخاص من ذوي الاتجاه القومي[1][82]. وقد تحدد من خلال المادة السابعة من منهاج الجمعية الهيكل التظيمي لها وذلك بأن يتألف من جمعية مركزية عدد اعضائها (12) عضواً يرأسها المرجع الديني الاعلى للمسلمين. والمعروف أنَّ السيد كاظم اليزدي (قده) كان هو المرجع الديني الاعلى في تلك الفترة[2][83])[3][84].

                    وكان لهذه الجمعية علاقة بإنطلاق ثورة النجف سنة 1918م، وقد كتبتُ أيضاً:
                    (تحدث كامل سلمان الجبوري عن وجود تيارين داخل جمعية النهضة الاسلامية ، الاول على صلة بالعثمانيين والثاني لا يريد عودة العثمانيين، التيار الاول كان يريد التعجيل بإعلان الثورة ضد الانكليز لكي يتسنى للعثمانيين العودة الى حكم العراق ! والثاني كان يريد تاخير إعلان الثورة لكي يتم إنضاج الفكرة في جميع مناطق العراق لكي يكون حجم إندلاعها مؤثراً في الساحة العسكرية فضلاً عن أنهم كانوا يطالبون بالاستقلال التام للعراق بعيداً عن البريطانيين والعثمانيين[4][85]. وقد كان المرجع الاعلى السيد كاظم اليزدي (قده) يميل لرأي التيار الثاني[5][86].وقد كان الحاج نجم البقال الذي تزعم الحركة الثورية النجفية في آذار / مارس 1918م هو قائد التيار الاول ، وقد ترأس (جمعية سرية داخل الجمعية)[6][87] على حد وصف الجبوري ، وهو وصف ناعم لعملية إنشقاق سرية جرت داخل جمعية النهضة الاسلامية برئاسة الحاج نجم البقال. والحاج نجم البقال أسمه نجم بن عبود بن فرج الدليمي المعروف بالبقال ، تقطن اسرته في لواء الدليم ، ولد من أب عربي من عشيرة المحامدة ومن أم عربية من عشيرة الخميسات ، وقد قطن النجف الاشرف هو وأبوه واخوته[7][88]. وقد ذكر الشيخ محمد الخالصي في مذكراته ما يشير الى أن عباس بن الحاج نجم البقال كان شيعياً[8][89]، مما قد يشير الى أن الحاج نجم البقال أيضاً كان شيعياً لاسيما وهو قد عاش في النجف الاشرف وانتسب الى جمعية إسلامية شيعيـة. وكان لجمعية النهضة الاسلامية جناح عسكري يتكون من ثلاث مجاميع : الاولى بقيادة كاظم صبي والثانية بقيادة الحاج نجم البقال والثالثة بقيادة كريم بن سعد الحاج راضي[9][90]. ومن الواضح أن المجموعة الثانية وحدها هي التي أشعلت نار التحرك الثوري المذكور حيث لم يرد أسم كاظم صبي او كريم بن سعد الحاج راضي ضمن أسماء المهاجمين الذين قتلوا الكابتن مارشال يوم 19 آذار / مارس 1918م وعددهم (27) ثائراً[10][91].
                    وكان الحاج نجم البقال متأثراً بالرسائل التي كان يرسلها إليه أبنه ، حيث انَّ أبنه عباس قد خرج من النجف الاشرف في 1 / 12 / 1917م واستطاع أن يفلت من رقابة الانكليز الذين كانوا يبحثون عنه لإشتراكه في الهجوم على مكاتب السلطة في أبي صخير يوم 19 تشرين الثاني / نوفمبر 1917م وتمكن من الوصول الى عجمي السعدون الذي أرسله الى الموصل[11][92]. وكان عباس هو الوسيط بين والده الحاج نجم البقال والسلطات العثمانية وربما دون علم الجمعية ، وقد أتفق الحاج نجم البقال مع العثمانيين على تقديم ساعة الصفر لتخفيف الضغط على الجيش العثماني في شمال العراق[12][93]، وكانت الحرب بين البريطانيين والعثمانيين وقت تحرك الحاج نجم البقال قد استعرت في لواء الدليم ، في مناطق الرمادي وهيت وغيرها ، غير أن الذي حصل أثناء الثورة أنه في يوم 26 آذار / مارس 1918م أي بعد ستة أيام من إندلاع الثورة سلّمت القوة العثمانية في الرمادي وخفّ الضغط على الجيوش البريطانية فنقل قسم من الجيش المعبأ للرمادي الى النجف لقمع الثورة[13][94] ! كما انه في يوم 28 آذار / مارس 1918م أحتل الانكليز بلدة (عانة) بدون مقاومة وانهزم العثمانيون ، فأرسل بعض الوحدات الانكليزية الى النجف لإخماد الثورة[14][95]. إذن تحرك الحاج نجم البقال بمجموعته التي أنشقت سراً عن جمعية النهضة الاسلامية ، بغية تخفيف الضغط عن الجيش العثماني الذي كان يقاتل الانكليز في لواء الدليم ، الموطن الاصلي للحاج نجم البقال ! وهو في تحركه هذا قد انفرد بالقرار وحده ودون الرجوع لرؤساء جمعية النهضة الاسلامية على أقل تقدير أو رؤساء محلات النجف الاشرف ، لقد تحرك بقرار منفرد بمعزل عن الجميع ، وأدى تحركه لهتك حرمة مدينة النجف الاشرف وضربها بالمدافع ومقتل العشرات من الابرياء)[15][96].

                    وهذه الاحداث تكشف عن ان جمعية النهضة الاسلامية، في الظاهر، كانت هي صاحبة ثورة النجف 1918م وأنها متعاونة مع الخلافة العثمانية من اجل عودتها الى العراق وطرد البريطانيين عنه. وهذا الواقع ورثه الابن الشيخ عز الدين الجزائري عن والده احد مؤسسي الجمعية، وحدث بعد انقراض الخلافة العثمانية ان ظهرت الدعوات بين مختلف مذاهب المسلمين السنة لعودة دولة الخلافة، وتزعم هذه الدعوة جماعة الاخوان المسلمين، والظاهر ان الشيخ عز الدين الجزائري كان متأثراً بتلك الاجواء الثقافية، والتي جزئها الاكبر يشكل موروثاً عائلياً له، والتي كان لها ابرز الاثر في تأسيسه منظمة الشباب المسلم الشيعية في العراق وهي اول تنظيم ينادي بتأسيس دولة دينية شيعية، بعيداً عن رؤية المرجعيات الدينية والموروث الفقهي والروائي الشيعي !
                    وقد اسس الشيخ عز الدين الجزائري منظمة اخرى تحت اسم (منظمة المسلمين العقائديين)، الى جانب منظمة (الشباب المسلم) !
                    كتب د. مازن الشاهر:
                    (واجه الشعب العراقي الاحتلال البريطاني ( 1914 م ) بمقاومة قتالية من ناحية، ورفض جماهيري لقوانينه وأنظمته من ناحية ثانية ،وقد اسهم علماء الدين في الحراكات السياسية والاجتماعية والفكرية بشكل فاعل تؤازرهم القوى الفاعلة في المجتمع ومن ثم تفجرت ثورة تحررية كبرى سنة ( 1920 م ) .
                    ولم يكن الوعي مغيباً تماماً فلقد أدركت ذلك شخصيات عراقية دينية ووطنية ، وأسست بوقت مبكر نشاطاً سياسياً يعد التجربة الحزبية المنظمة الأولى في تاريخ العراق الحديث ، تلك هي (( جمعية النهضة الإسلامية السرية )) التي يقودها عدد من علماء المسلمين ، وهم السيد محمد علي بحر العلوم ، والشيخ محمد جواد الجزائري ، والشيخ محمد علي الدمشقي ، والمرزا عباس الخليلي ، وكان الشيخ عبد الكريم الجزائري يرعى الجمعية ويؤيدها من طرف خفي . وقد صاغت الجمعية منهاجاً لها مؤلفاً من أحدى وعشرين مادة ، تنص المادة الثانية على أن جمعية النهضة تسعى لإعلاء كلمة الإسلام وسعادته وترقيته ، ومراعاة القانون الأعظم في ذلك ألا وهو الشرع الشريف المحمدي والعمل به طبقاً لقوله تعالى ((وما جعل الله للكافرين على المسلمين من سبيل)) ونبذ التقاليد الأفرنجية الذميمة ورفضها ، مع مباراة الأمم المتمدنة ومجاراتها في المزايا الجميلة ، ودرس الأحوال السياسية والعمل بما ينتفع به المسلمون ويعلو به الإسلام.
                    إن أبرز ما تتميز به هذه الجمعية إنها نشأت وتأسست في إطار الصراع القائم بين الشعب العراقي والآخر (الغازي / الوافد) ، ولقد فرضت الظروف الموضوعية نشأتها وأصالتها ، فهي ليست نتاجاً وافداً من الخارج ، أو تجربة مستنسخة من شعوب أخرى ، وإنما هي نبتة طبيعية نمت وترعرعت في مناخ الحراك السياسي العراقي ، أعضاؤها وقادتها عراقيون ، وأفكارها وآلياتها التنظيمية إسلامية عراقية محضة .
                    ولقد استفادت منظمة المسلمين العقائديين (تأسست 1941م) من الإرث التاريخي لجمعية النهضة الإسلامية ومن تجاربها وآليات عملها ، وكأنها ولدت من رحم هذه التجربة الفريدة وطورتها ، آخذة بعين الأعتبار الطبيعة الموضوعية للواقع السياسي .
                    ولم تكن منظمة المسلمين العقائديين هي الوحيدة التي أفادت من تجربة جمعية النهضة الإسلامية ، فلقد سبقتها زمنياً بوقت قصير حركة الشباب المسلم ، وهما معاً (الشباب المسلم والمسلمون العقائديون) التوأم اللذان أسسهما ورعاهما سماحة الشيخ عز الدين الجزائري نجل أحد أبرز مؤسسي جمعية النهضة الإسلامية السرية آية الله محمد جواد الجزائري ، وبذلك يعد هذان التنظيمان أقدم عملين تنظيميين إسلاميين ، ومن المؤكد كما يؤكد مؤسس الحركتين ، وكما تؤكد طبيعة الأحداث وطبيعة الأدبيات ، إن منظمة المسلمين العقائديين هي الحركة الأكثر نضجاً والأكثر عمقاً والأكثر إنضباطاً في تنظيمها)[16][97].


                    حريق الاقصى والنهضة الاسلامية العالمية:
                    تعتبر جريمة حرق المسجد الاقصى سنة 1969م من أبشع واهم الجرائم التي ارتكبتها الحركة الصهيونية ضد المسلمين ومقدساتهم. وكان لهذا الحرق صداه الواسع، والذي كان يفترض بالحكومات التي تحكم بلاد المسلمين ان يستثمروه لصالح تحرير المسجد الاقصى الذي احتله الكيان الصهيوني سنة 1967م، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث! وأقصى رد فعل للحكام هو تأسيسهم منظمة المؤتمر الاسلامي التي تم تحويل اسمها بعد ذلك الى منظمة التعاون الاسلامي ! بينما احدثت تلك الجريمة على الصعيد الشعبي "فوضى في العالم وفجرت ثورة غاضبة خاصة في أرجاء العالم الإسلامي، ففي اليوم التالي للحريق أدى آلاف المسلمين صلاة الجمعة في الساحة الخارجية للمسجد الأقصى وعمت المظاهرات القدس بعد ذلك احتجاجاً على الحريق ... كان لهذا العمل الذي مسّ مقدسا هو ثالث الحرمين ردة فعل كبيرة في العالم الإسلامي, وقامت المظاهرات في كل مكان"[17][98].
                    والظاهر ان هناك حركة قوية عمّت العالم الاسلام بغية التعاون والاتحاد بين الدول الاسلامية لمواجهة المخاطر التي تكتنف العالم الاسلامي، وهذا هو سبب تأسيس المنظمة المذكورة، حيث يحاول حكام الدول الاسلامية امتصاص النقمة الشعبية العارمة والتعمية على تقصيرهم الجسيم تجاه قضية تحرير فلسطين والمسجد الاقصى المبارك، بتأسيس هذه المنظمات التي لا طائل من ورائها على الصعيد العملي لحل القضية الفلسطينية واسترجاع الحقوق السليبة. والظاهر ان الاجواء المحرّكة لانطلاق الثورة الاسلامية في ايران كانت متأثرة بالسخط الشعبي لعموم المسلمين في كل مكان تجاه اداء الحكام العرب نحو قضية فلسطين، وبدأت الجماهير المسلمة تدرك ان لا خلاص لفلسطين من براثن الصهيونية العالمية الا بالعودة الى الاسلام على صعيد الحكومات التي تحكم بلاد المسلمين، أي بمعنى آخر تأسيس دول دينية في بلاد المسلمين لكي تأخذ على عاتقها تحرير فلسطين.
                    وقد وجه مراسل صحيفة (دير شبيغل) الالمانية، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1978م السؤال التالي الى السيد الخميني، قال المراسل: (في السنوات الاخيرة ظهرت حركة قويّة تدعو الى الاتحاد الاسلامي في العديد من اقطار الشرق الاوسط وآسيا، ولا شك أن تدخل الدين في الحياة السياسية في تلك الاقطار قد ازداد وتنامى. الى أي مدى يمكن ربط الاوضاع الحالية في إيران بالحركة الاسلامية العالمية؟) فأجاب السيد الخميني:
                    (إنها ظاهرة عالمية. في الحقيقة تحاول البشرية في الوقت الحاضر وضع نهاية لعصور دأبت على فصل القيم المادية عن القيم المعنوية، إن المادية تستعيد موقعها في شتى المجالات عبر الارتقاء بالقيم المعنوية للإنسان)[18][99].





                    [1][82]دور علماء الشيعة في مواجهة الاستعمار ، سليم الحسني ـ ص143 و144.

                    [2][83]دور علماء الشيعة في مواجهة الاستعمار ، سليم الحسني ـ ص145.

                    [3][84] بحث بعنوان (فوضى واخطاء واكاذيب في سرد احداث ثورة العشرين)، بقلم نبيل الكرخي، منشور في موقعه الالكتروني الرسمي.

                    [4][85]النجف الاشرف ومقتل الكابتن مارشال ، كامل سلمان الجبوري ـ ص42 و43.

                    [5][86]دور علماء الشيعة في مواجهة الاستعمار ، سليم الحسني ـ ص150.

                    [6][87]النجف الاشرف ومقتل الكابتن مارشال ، كامل سلمان الجبوري ـ ص43.

                    [7][88]النجف الاشرف وحركة الجهاد عام 1914م ، كامل سلمان الجبوري ـ هامش ص389.

                    [8][89]لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث ، د. علي الوردي ـ ج5 ق2 ص260.

                    [9][90]دور علماء الشيعة في مواجهة الاستعمار ، سليم الحسني ـ ص146.

                    [10][91]النجف الاشرف ومقتل الكابتن مارشال ، كامل سلمان الجبوري ـ ص56 و58.

                    [11][92]دور علماء الشيعة في مواجهة الاستعمار ، سليم الحسني ـ ص148.

                    [12][93]النجف الاشرف ومقتل الكابتن مارشال ، كامل سلمان الجبوري ـ ص54.

                    [13][94]المصدر السابق ـ ص89.

                    [14][95]المصدر السابق ـ ص92.

                    [15][96]بحث بعنوان (فوضى واخطاء واكاذيب في سرد احداث ثورة العشرين)، بقلم نبيل الكرخي، منشور في موقعه الالكتروني الرسمي.

                    [16][97] مقال بعنوان (لتقرير السياسي لمنظمة المسلمين العقائديين) بقلم د. مازن الشاهر، منشور في الموقع الالكتروني دنيا الوطن، بتاريخ 12/8/2012م.

                    [17][98] الموقع الالكتروني ويكيبيديا الموسوعة الحرة تحت عنوان (حريق المسجد الأقصى).

                    [18][99]بيان الثورة في مرآة الاعلام، الاحاديث والبيانات الصحفية للامام الخميني / اعداد وتنظيم رسول سعادتمند، تعريب عباس صافي / مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي/ الطبعة الاولى، بيروت، 2009م – ج1 ص126.

                    تعليق


                    • #11
                      ج10

                      المحور الثالث
                      هل الدولة الشيعية نافعة؟!

                      ويمكن ان نذكر السؤال بطريقة اخرى: (أيهما انفع للتشيّع وجود دولة دينية أم الإنسجام في المجتمعات الاسلامية؟)، بفرض ان الدولة الشيعية تتعارض مع الانسجام في المجتمعات الاسلامية! وربما هذا الفرض غير صحيح!
                      ومن المهم التذكير قبل مناقشة هذا المحور ان الاسلام وواجهته النقية التشيّع الإمامي هو في رعاية صاحب الامر إمامنا المفدّى (عجّل الله فرجه الشريف). ولا يصح ان تدّعي أية جهة أنها صاحبة فضل على انتشار التشيّع او وجوده او بقاءه او نموه، فالفضل كلُّه لله سبحانه وتعالى ثم لصاحب الزمان (عجّلَ الله سبحانه وتعالى فرجه الشريف).
                      ويمكن ان نستأنس ضمن هذا الاطار ببعض الروايات الشريفة التي وردت في إكمال الدين للشيخ الصدوق (رضوان الله عليه):
                      روى أنه سُئِلَ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن كيفية الانتفاع بالإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته ، فقال : (إي والذي بعثني بالنبوة إنهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلّلها السحاب).
                      وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال ـ بعد أن سئل عن كيفية انتفاع الناس بالحجة الغائب المستور ـ : (كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب).
                      وروي أنه خرج من الناحية المقدسة إلى إسحاق بن يعقوب على يد محمد بن عثمان : (وأما وجه الإنتفاع بي في غيبتي ، فكالإنتفاع بالشمس إذا غيبها عن الابصار السحاب).

                      وهذا الموضوع جدلي وحساس نتيجة ان هناك اعداء يتربصون بالشيعة والتشيّع، وبعدما عجزوا عن مواجهة التشيّع نراهم يعمدون الى مواجهة الشيعة ومحاولة اضعاف كل كيان ينشأ ليجمعهم ويقويهم على الصعيد السياسي. لذلك فقد يفسر البعض بحثنا هذا بأنه يصب في مصلحة اعداء التشيّع وخصوم الشيعة! ولكن هل يجب ان يثنينا هذا عن التحدث بما يكتنفه ضميرنا بعد دراستنا للواقع الاسلامي والفتن التي تجري فيه والمتغيرات التي تحركه، وما يجب ان يكون وفقاً لتعاليم ائمة آل البيت الهداة (عليهم السلام). وما يشفع لنا فيما نذكره في هذا البحث هو اننا نذكر ما نرى انه يعبّر عن منهج آل البيت الاطهار (صلوات الله عليهم)، ونحن نتحدث فيه عما كان يجب ان يحدث من الناحية التأريخية والاجتماعية، فنحن لا نتدخل بالقضايا الفقهية لانها ليست من تخصصنا، وانما ننظر الى مجريات الامور وما حدث وما كان يجب ان يحدث وفقاً لما فهمناه من منهج الأئمة الهداة الاطهار (عليهم السلام).

                      التقية والدولة الشيعية:
                      من المعلوم ان التقية هي منهج أصيل في التشيّع الامامي الاثناعشري، وهناك روايات عديدة تبين اهمية التقية وانها قائمة الى ظهور القائم (عجّل الله فرجه الشريف)، فكيف يمكن ان نوفق بين تأسيس دولة شيعية وبين المحافظة على التقية؟!!

                      الانتشار الطوعي للتشيّع وعقبة الدولة الشيعية:
                      هناك رأي يقول بأنه لم يتضرر الانتشار والامتداد الطوعي الشيعي (الذي يسميه خصوم الشيعة المد الشيعي)، بشيء مثلما تضرر بسبب وجود دول شيعية تتبنى التشيّع كدستور وجزء من السلطة السياسية، كما حدث في مملكة الصفويين ومملكة القاجاريين ونظام الجمهورية الاسلامية الذي تأسس سنة 1979م.
                      فلا يخفى ان التشيّع ، بإعتباره يمثل الامتداد الطبيعي للاسلام الحقيقي الذي انزله الله سبحانه وتعالى، له قوة ذاتية على الانتشار والتوسع في المجتمعات الاسلامية وغيرها، اعتماداً على مقدرته الاقناعية وادلته المتناغمة مع الطبيعة والفطرة البشرية. وقد قادت قوة التشيّع لانتشاره في مجتمعات متعددة في الشرق والغرب الاسلامي على السواء، في القرون الماضية. وساعد على هذا الانتشار عدم وجود مطامع لدى الشيعة في السلطة، فكانوا مسالمين مع السلطات الحاكمة رغم انهم يصنفونها بانها سلطات جائرة ظالمة لا يجوز الركون اليها ولا العمل أو التعاون معها، مادام الاسلام راسخ في المجتمع بنحو ما وبسعة ما. ولذلك انتشر التشيع بصورة طوعية وسلمية وبجهود فردية في جميع قارات العالم، حيث وُجِدَ إنسان وُجِدَ التشيع الإمامي.
                      ويمكن ان نستعير من التاريخ شواهد عديدة على صحة رؤيتنا، منها ماتحدث عنه الشيخ علي كوراني من انطلاق موجة التشيّع بجهود العالمين الجليلين الشيخ الخواجة نصير الدين الطوسي والعلامة الحلي، فقد تحدث في كتابه (كيف رد الشيعة غزو المغول) في الفصل التاسع تحت عنوان: (تطور موجة التشيّع التي احدثها نصير الدين الطوسي والعلامة الحلي). ويمكن ان نفسّر زيادة انتشار التشيّع بعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد سنة 656هـ لعدة اسباب منها انهيار المؤسسات الدينية المخالفة للتشيّع التي كانت تنظّر للمذاهب المخالفة وتقف عقبة في السماح لعموم المسلمين بالتفكير الحر في الدين، لكون تلك المؤسسات مرتبطة بالسلطة العباسية الحاكمة، وجوداً ومصيراً. ومنها تقديم التشيّع البديل للمسلمين عن نظام الخلافة، وانقاذهم من النكسة النفسية الكبيرة التي احاطتهم نتيجة انهيار الخلافة وذلك بنقلهم من الولاء للخليفة الى الولاء الى آل البيت الاطهار (عليهم السلام)، وسلطتهم الزمنية التي لا يصيبها الانهيار كون المسلمين في تلك الفترة يعيشون في عصر الغيبة الكبرى. ومنها ما يقدمه الشيعة من ادلة تثبت حقّانية مذهبهم امام المذاهب الاخرى. ومنها ان التشيّع هو المذهب الوحيد الذي نتيجة خبرته السابقة في التعامل مع الطغاة والسلطات الطاغوتية الحاكمة والبطش تمكن من التعايش مع ازمة الاحتلال التتري واحتوائها، وتحويل عدد من ملوك التتر الى الاسلام والتشيّع. ومنذ تلك الفترة شكّل إنتشار التشيّع الامامي ظاهرة في كل البلاد، في ايران والاناضول وبلاد الشام والهند وشبه الجزيرة العربية وغيرها. وبسبب عودة الخلافة العباسية الى الوجود في مصر في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي ولو صورياً نجد ان التشيّع لم ينتشر هناك بصورة ملحوظة في تلك الفترة. في حين نجد في القرن العشرين الميلادي ان التشيّع في مصر وبلاد المغرب العربي عاد الى الانتشار كظاهرة ملحوظة بعد تأسيس انظمة علمانية في تلك البلاد لا تجعل من الدين عقبة للحجر على التفكير والحوار. ومن المؤسف ان تتقهقر بعض تلك الانظمة فعادت للتضييق على المستبصرين الشيعة في بلادهم بذريعة خوفهم من ان يكونوا امتداداً للنظام الايراني الشيعي ! وهذا نموذج من عدة نماذج تبيّن ان وجود الدولة الدينية الشيعية يشكّل عقبة امام انتشار التشيّع كما ان وجود الدولة الدينية السنية هو عقبة أيضاً امام انتشار التشيّع.
                      يقول الدكتور علي محمد الصلايبي في فقرة (انتشار التشيّع):
                      (كان لسقوط بغداد أثره البالغ في انتشار التشيّع، فالمعروف ان الخلافة العباسية السنية اشتهرت في ذلك الوقت بمحاربة التشيّع والحد منه في مناطق ايران وغيرها، إلا انه بالقضاء على الخلافة العباسية انتشر التشيّع في تلك المناطق بطريقة غير مالوفة، نتيجة لازدياد نفوذ رجال الشيعة الذين اصبحوا يتبوؤن المراكز الهامة لدى المغول، كنصير الدين الطوسي الذي كان مستشاراً لهولاكو، ووزير الخليفة مؤيد الدين بن العلقمي الذي اسند اليه حكم بغداد بعد سقوطها، هذا بالاضافة الى ازدياد نفوذ المسيحيين الذين ساعدوا هولاكو في الاستيلاء على بغداد والقضاء على الخلافة العباسية، إذ من المؤكد أن يحظوا بمكانة عالية في تلك المناطق على حساب مكانة السكان المسلمين، خاصة وان دوقوز خاتون زوجة هولاكو – التي كانت مسيحية نسطورية – لم تكن تألو جهداً في التعاطف مع المسيحيين الشرقيين، والعمل على رفع شأنهم لدى زوجها هولاكو)[1][100].
                      بل ان التشيّع تمكن من الانتشار في بعض الاحيان في قلب مؤسسة الخلافة السنيّة، فهذا معاوية بن يزيد الاموي يعلن ان الحق عند أهل البيت الاطهار (عليهم السلام) ويتنازل عن الخلافة، وذاك المنتصر بالله العباسي يقتل اباه ويعتنق التشيّع فيما يقال، وكذلك الخليفة الناصر لدين الله العباسي متهم أيضاً بالتشيّع، ووصل الشيعة الامامية الى مرتبة الوزارة في العهد العباسي ولعل اشهرها وزارة الوزير ابن العلقمي (رحمه الله).
                      ومن التأثيرات السلبية لوجود دولة شيعية، هو ما تمخض بعد تأسيس الدولة الصفوية في ايران والذريعة التي اعطتها للسلطان العثماني سليم الاول ليبطش بالشيعة ويقتل ما يزيد على (40) الف شيعي يسكنون في الاناضول، ولا ذنب لهم سوى خشيته من تعاونهم مع الدولة الصفوية الناشئة حديثاً !

                      يقول بعض المدافعين عن جرائم السلطان سليم ضد الشيعة:
                      (كنا قد ذكرنا من قبل أن الشيخ جنيد – وهو من اردبيل – عندما اراد إضافة السلطنة الى مشيخته ولم يوفق في مسعاه قُتِلَ عام 864هـ / 1460م، وحل ابنه الشيخ حيدر محله وسار على نفس خطى والده لتحقيق الغاية نفسها، وذلك بالسعي لتشييع الاناضول)[2][101].
                      فألقوا تهمة تشييع الاناضول على مؤسسي الدولة الصفوية لتبرير قتل الشيعة هناك، مع ان التشيّع كان ينتشر في الاناضول وغيرها من بلاد المسلمين بصورة طوعية وسلمية وذاتية.
                      وتبع ذلك مجازر وعداء شديد من قبل السلاطين العثمانيين تجاه الشيعة في الاناضول والعراق وسوريا، وكله ظلم وبطش مستند لخلفية سياسية قائمة على التنافس مع المملكة الصفوية والقاجارية في بسط نفوذها على العراق وبلاد الشام (سوريا ولبنان). ولا ننسى السلطان العثماني مراد الرابع الذي فتك بشيعة العراق وقتل حوالي 30 الف شيعي من المدنيين الابرياء بعد احتلاله بغداد مرة اخرى التي سبق للصفويين احتلالها وقتك آلاف الابرياء من اهل السنة فيها !! فهذا الصراع السياسي بين الصفويين والعثمانيين وقوده الطائفية، لتحقيق مصالح العائلتين الصفوية والعثمانية، وضحاياه الابرياء من الشيعة واهل السنة.
                      وفي عصرنا هناك خصومة وعداء شديدة بين الدول العربية السنيّة وايران بعد قيام الجمهورية الاسلامية فيها على اساس ديني شيعي اثناعشري، لدرجة ظهور ما اطلق عليه الملك الاردني عبد الله الثاني اسم (الهلال الشيعي) الى جانب الرئيس المصري السابق حسني مبارك واصطفاف السعودية وبقية دول الخليج والمغرب العربي الى جانبهم، والتخوف والهلع الذي بدأ يبثونه في الاعلام! وبدأ هذا العداء (الديني- السياسي) يعطي الذريعة والمبرر لبطش الحكومات العربية بالمستبصرين الشيعة في بلادهم بذريعة ان هؤلاء المستبصرين ينشرون التشيع في بلادهم وبذلك يصبحون عملاء لايران بحكم تبعيتهم الدينية ! رغم اننا نعرف ان الواقع الشيعي غير ذلك، نتيجة رفض كبار المراجع في النجف الاشرف لولاية الفقيه المطلقة العقائدية.
                      ومن الجدير بالذكر ان اول من اطلق فوبيا التشيع والتحذير من المد الشيعي هو الملك الاردني الحسين بن طلال حينما قال في خطاب له عام 1979م بعد انتصار الثورة الاسلامية الإيرانية:
                      "انه على العالم الإسلامي أن لا يتفاءل بهذه الثورة ويعي أنها ليست ثورة إسلامية إنما ثورة فارسية شيعية تقصد إحياء مجد فارس عن طريق نشر التشيع"[3][102].

                      ثم بعد الاحتلال الامريكي- البريطاني للعراق سنة 2003م، أطلق الملك عبد الله الثاني أبن الملك حسين بن طلال مصطلح "الهلال الشيعي" في حديثه مع الواشنطن بوست الامريكية أثناء زيارته للولايات المتحدة في أوائل شهر ديسمبر/ كانون الاول سنة 2004م[4][103] عبر فيه عن تخوفه من وصول "حكومة عراقية موالية لإيران إلى السلطة في بغداد تتعاون مع طهران ودمشق لإنشاء هلال يخضع للنفوذ الشيعي يمتد إلى لبنان ويخل بالتوازن القائم مع السنة، ورأى في بروز هلال شيعي في المنطقة ما يدعو إلى التفكير الجدي في مستقبل استقرار المنطقة، وهو يمكن أن يحمل تغيرات واضحة في خريطة المصالح السياسية والاقتصادية لبعض دول المنطقة"[5][104].
                      وما يحصل اليوم في البحرين حينما تلجأ السلطات الحاكمة لقمع الاحتجاجات السلمية المطالبة بالحقوق السياسية، وتتذرع السلطة الحاكمة هناك بوجود تدخلات خارجية من قبل الجمهورية الايرانية وانها هي التي تحرّك الاحتجاجات التي تصفها بانها مسيرة من الخارج وغير عفوية. وتَمكّن النظام الحاكم في البحرين من التأثير على المجتمع الدولي تحت هذه الذرائع للتغطية على بطشه والانتهاكات التي يمارسها ضد ابناء الشعب البحريني، بسبب ذلك. وهذا يقودنا للتساؤل انه لو كانت هناك دولة دينية شيعية اخرى قائمة ايام نظام الشاه لكان ذلك اقوى مبرر للشاه للبطش بالثورة والاحتجاجات والثورة اكثر مما فعله بدرجات ويعاضده في ذلك المجتمع الدولي كله بدون حياء. ولا ننسى ان العالم كله بمعسكريه الشرقي والغربي ايام الحرب الباردة في فترة انطلاق احتجاجات الثورة الاسلامية كان يؤيد نظام الشاه ويقف بالضد من تلك الاحتجاجات، ولكن لم يتمكن نظام الشاه او المجتمع الدولي آنذاك من الصاق تهمة التبعية لدولة او قوى خارجية لتكون مبرراً للبطش بابناء الشعب الايراني. وفي الحقيقة لا يوجد اختلاف بين احتجاجات الشعب الايراني ضد نتظام الشاه واحتجاجات الشعب البحراني ضد نظام آل خليفة سوى انه هنا تذرع الحاكم بوجود دولة شيعية تحرك الاحتجاجات وتدعمها وآنذاك لم يكن هذا المبرر موجود عند الشاه المقبور، وقد يكون هذا احد عوامل نجاح الثورة في ايران وفشلها في البحرين!
                      وهناك من يرفض هذه الرؤيا ويقول ان الانتشار الشيعي في مختلف الدول العربية والاسلامية إنما بدأ ببركات الثورة الاسلامية في ايران ويقظة الشعوب الاسلامية لأهمية دور "الولي الفقيه" في التخلص من السلطات الجائرة وإقامة الحاكمية الدينية وهذا ما يدفع المسلم للبحث عن هذا المذهب الذي انتج ولاية الفقيه العقائدية ونشاته التأريخية واصوله العقائدية وحججه وادلته. وساند هذا الرأي الانتصارات العظيمة لحزب الله في لبنان والذي اعاد الشيء الكبير من الكرامة والثقة بالنفس للشعوب الاسلامية في مختلف الدول. وهذا يعني ان المد الشيعي إنْ صح التعبير هو مماثل للمد الوهابي في مختلف انحاء العالم، فذاك نشأ بتأثير إقامة الدولة الدينية الشيعية في ايران، وهذا نشأ بتأثير إقامة الدولة السعودية الوهابية في شبه الجزيرة العربية.
                      ولكن من خلال مراجعة حقائق الارض والتاريخ والتراث الشيعي يتبين ان الانتشار الشيعي الطوعي والسلمي بدأ قبل إنطلاق الثورة الاسلامية في ايران بقرون عديدة، بدليل وجود مجتمعات شيعية في مختلف دول العالم قبل انطلاق الثورة الاسلامية في ايران بفترة طويلة. ولكن تطور وسائل الاعلام والاتصالات والتواصل الاجتماعي ادى الى التركيز على هذه القضية في العقود المتأخرة وانتبه لها خصوم التشيع اكثر من ذي قبل، تسندهم أموال النفط الوهابي.
                      ويمكن ان يعاضد هذه الرؤية التالي:
                      ـ كتب عبد الرحمن بن محمد لطفي يقول:
                      (أما بالنسبة لعقيدة الشيعة التى يحاربونها ويحذرون منها فنحن أيضا نحاربها ونحذر منها ولكن لا نغالي فى ذلك وأنا شخصيا كتبت عام 1978 في مجلة (الهدى النبوى) التى كانت تصدرها جماعة أنصار السنة المحمدية. أحذر من كتب الشيعة وذلك قبل قيام الثورة الإسلامية فى إيران. وذلك لأنني وجدت من يوزع كتبا تدعو إلى المذهب الشيعي والذى كان يوزعها فى بلدنا ملوى أخ كان يعمل سكرتيرا للشيخ محمد الغزالي السقا فى وزارة الأوقاف يدعى إكرام إسماعيل. ولكنه ذهب إلى لبنان وهناك تشيع وأحضر هذه الكتب معه مثل كتاب (المراجعات)الذى زعموا أنه عبارة عن مناظرة بين عالم شيعي يدعى عبد الحسين بن شرف الدين والشيخ سليم البشري شيخ الأزهر الأسبق ، وكتاب (المسائل الفقهية بين الشيعة والسنة) ومن بين الكتب التى كان يوزعها كتاب بعنوان (لماذا اخترت مذهب الشيعة مذهب أهل البيت الأبرار؟!)[6][105].
                      ـ ان العراق نفسه انتشر فيه التشيع بين القبائل في جنوب ووسط وشمال العراق حتى وصل الى الموصل (قومية الشبك)، بصورة سلمية وبجهود العلماء والخطباء الشيعة العراقيين، منذ القرن الثالث عشر الميلادي، كما يصرّح بذلك حنا بطاطو. أي منذ أكثر من 800 سنة.
                      يقول حنا بطاطو:
                      (انتماء الشعب الذي يقطن دجلة جنوب بغداد الى الطائفة الشيعية لاحظه الجغرافيان ياقوت (1179- 1229م) والقزويني (1203- 1283م)، وانتماء سكان الاهوار في الفرات الادنى لاحظه الرحالة ابن بطوطة (1304- 1377م)، ..... وفي ايام "سادة" المشعشع كان كل جنوب ما هو عراق اليوم، بإستثناء مدينة البصرة، شيعياً)[7][106].
                      وكتب عبد العزيز بن صالح المحمود بنزعة طائفية:
                      (مرَّ قرنان من الزمان على العراق والتشيع يسري فيه وفق مخطط مدروس، حيث أن الشيعي حيث وُجد فله قيادات تُخطط له، وقديما كانت تخطط له رجالات الحوزة، ومع مرور الزمن يتمدد التشيع ديمغرافيا أرضا وسكانا على أرض الرافدين)[8][107]،
                      ثم يعود في نفس المقال ليعترف ان الانتشار الشيعي في العراق يعود لأربعة قرون ماضية وليس قرنان فقط فيقول وهو يتحدث عن وجود مد سني وهابي في العراق بدأت مظاهره منذ ستينيات القرن العشرين:
                      (فقد حدث - ولأول مرة- منذ أربعة قرون وبجهود فردية عكس عجلة التشيع المطردة في تحويل المجتمع العراقي من التسنن إلى التشيع) !
                      والحق ان ارتباط التشيع بالعراق يعود الى زمن خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي اتخذ من الكوفة عاصمة لدولته، ثم نشوء الحوزات الدينية الشيعية في بغداد والحلة والنجف الاشرف في القرون الماضية ابتداءاً من عصري الشيخ المفيد والشيخ الطوسي (رضوان الله عليهما). ومنها انطلقت انوار التشيع لتشمل جميع انحاء العراق والعالم الاسلامي بصورة تدريجية طوعية وسلمية.
                      ويضيف في مقاله نفسه:
                      (انتشر التشيع في جنوب العراق تحت سمع الدولة العثمانية وبصرها، وبموافقة رجال الحكم والولاة في معظم الأحيان، حتى كاد يصل لدرجة انفصال الجنوب الشيعي في العراق فأخذ يدير شئونه بقدر كبير من الاستقلال عن الدولة، وبسبب خوف الدولة العثمانية من تأثر مواطنيها بظهور الدعوة السلفية بزعامة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في منطقة نجد، اتبعت الدولة العثمانية سياسة إنشاء حاجز بينها وبين نجد، عبر السماح بتشيع قبائل جنوب العراق حتى غدت منطقة جنوب العراق أكثرية شيعية لتكون مانعا فكريا ضد تأثير دعوة محمد بن عبد الوهاب وأتباعه بسبب الاتصال العشائري بين جنوب العراق ومنطقة نجد، هذا لا يعني أن الأمر مخطط له وبوعي من قبل العثمانيين، بل كان نتيجة لرغبة الساسة بالتخلص من أمر دون النظر إلى عواقبه المستقبلية، كما يفعل الساسة العرب اليوم في مقاومة أطماع إيران).
                      ولكن مزاعمه في ان العثمانيين سمحوا للتشيع بالانتشار للوقوف ضد الوهابيين تخالفه الحقائق التاريخية، حيث إنَّ محمد بن سعود بن محمد آل مقرن أمير الدرعية ومؤسس الامارة السعودية الاولى قد عاش في القرن الثامن عشر (توفي في عام 1765م). في حين ان الانتشار الشيعي بحسب اعترافه يعود لما قبل اربعة قرون. أي ان الانتشار الشيعي في جنوب العراق سبق ظهور امارة آل سعود الوهابيين في نجد. كما ان نشاط الوهابية في تلك الفترة لم يتعد نجد والدرعية والرياض، ولم يكن لهم تأثير على جنوب العراق من خلال الدعوة الوهابية، بل على العكس كانوا يسيئون الى جنوب العراق من خلال بعض الغارات عليه.
                      ويقول أيضاً في نفس المقال:
                      (في أواخر الدولة العثمانية أحسوا بالخطر الشيعي، فقد تلقى السلطان عبد الحميد تقارير في سنة 1890م تحذر من كثرة تواجد الشيعة في الجيش العثماني في العراق؛ لذلك أوفد لجنة عسكرية للتفتيش في هذا الأمر، مما تسبب في إقالة والي بغداد سنة 1891م بسبب تغلغل الإيرانيين داخل بغداد، إضافة إلى كثرة تواجد الشيعة في الجيش العثماني في العراق).
                      وهذا يعزز ما ذهبنا اليه من ان انتشار التشيع في العراق يعود لفترة سابقة على الثورة الاسلامية في ايران.
                      ـ جهود الشيخ جمال الدين الافغاني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، والذي كان شيعياً ورغم ان تحركة من اجل النهضة واليقظة الاسلامية لم يكن مبنياً على مذهب التشيّع بل كان عاماً لكل المسلمين دون انحياز لمذهب معين، الا ان بنيته الشيعية اثرت في المحيطين به وفي نشوء جهود التقريب بين المذاهب الاسلامية الشيعية- السنية. ولا اقل من تأثر تلميذه الشيخ محمد عبدة به وما يمثله من خلفية ازهرية معتبرة.
                      ـ جهود دار التقريب التي انشأت في القاهرة برعاية المرجعيات الشيعية والازهر، والتي كسرت الحاجز النفسي امام المسلم السني والتشيّع، وبدأت الكتب والمجلات والافكار الشيعية تنساب على مصر وبقية الدول الاسلامية. والتي أثرت بعد ذلك نشوء اجواء الحوار التي انتجت كتاب (المراجعات) الشهير للسيد عبد الحسين شرف الدين (رضوان الله عليه)، ثم فتوى شيخ الازهر محمود شلتوت بجواز التعبد بالمذهب الجعفري.
                      ـ كتب البروفيسور خالد سنداوي، في تقرير له بعنوان (زمن الشيعة: حقائق وأرقام عن التشيع في سوريا)، يقول:
                      (أول وأبرز عالم شيعي حديث عمل على نشر التشيع في سوريا كان العالِم عبد الرحمن خير (مولود 1925)، ولكن لم تتحول إلى أعداد كبيرة إلا بسبب أنشطة جميل الأسد المكثفة، الشقيق المتدين للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وذلك خلال الثمانينيات. ويمكن تتبع بدايات الاتجاه إلى التشيع في الماضي إلى زيارة موسى الصدر في عام 1974، إلى شيوخ الطائفة العلوية في جبال اللاذقية في المنطقة الساحلية من البلاد. وقد سبقه آية الله الشيرازي، الذي أصدر الفتوى الشهيرة والتي تفيد أن أهل تلك المنطقة ينتمون إلى الشيعة الإثني عشرية. وبدأ جميل الأسد بتشجيع التحول إلى المذهب الشيعي في المنطقة نفسها، وبخاصة بين أعضاء الطائفة العلوية.)[9][108].
                      والتقرير غفل عن جهود السيد محسن الامين والسيد عبد الحسين شرف الدين في خمسينيات القرن العشرين الميلادي والتي اثمرت اعلان علماء العلويين في بلاد الشام إنتمائهم الى الشيعة الاثناعشرية.

                      تعليق


                      • #12
                        ج11

                        ـ ويتحدث البروفيسور خالد سنداوي في لقاء صحفي معه عن انتشار الشيعة في فلسطين، في عقود عديدة قبل الثورة الاسلامية في ايران، فيقول:
                        (قبل قيام دولة اسرائيل كانت قرى شيعية في المنطقة الشمالية القريبة من الجنوب اللبنانية تابعة لفلسطين التاريخية وهي: القدًس،المالكيّة، هونين،النبي يوشع،آبل القمح، طربيخا، صالحة، يارون. هذه القرى كانت ضمن حدود فلسطين التاريخية وهؤلاء هم لاجؤن هُجّروا أو هاجروا الى لبنان في 48 ويسمون في لبنان "الفلسطينيون الشيعة أما بالنسبة للشيعة المتواجدون في البلاد هم أفراد من رواسب عائلات شيعية سيما وأنه قبل قيام الدولة كانت الحدود مفتوحة مع لبنان. وكان هناك تواصل بين الشيعة في جنوب لبنان وبلادنا وتربطهم أواصر قربى وعلاقات تجارية. أما بالنسبة للعائلات الشيعية في البلاد عامة وفي حيفا خاصة ففي الناصرة هناك عائلة أيوب (11 نفرا)، عائلة البزّة، عائلة اسكندر في المزرعة هي عائلة شيعية، عائلة ظاهر بعض الظاهر في الناصرة عائلة شيعية (وهناك ظواهر سنة، ومسيحية)، وعائلة زين الدين في الناصرة وحيفا، عائلة حنيني (80 نفرا) في الناصرة، عائلة طباجة في كفركنا وحيفا، ناصر الدين في شفاعمرو وحيفا، نور الدين(هاشم) في الناصرة وحيفا، عائلة علويّة في الناصرة. فحسب الإحصاء الذي قمت به أنّ عدد الشيعة في البلاد 223 نفرا. ولكن علينا أن نعود الى الوراء أن هناك عائلات شيعية تركت البلاد بعد 48 منها عائلة بيضون التي كانت في حيفا. ..... والكثير من الأملاك كانت للشيعة في منطقة البلد السفلى. كما أنّ قسم من عائلة ظاهر الشيعية تركت الناصرة واستقرت في بلدة زبقين في جنوب لبنان. كما أن عائلة سعد الشيعية من الناصرة تركت البلاد واليوم تسكن في خربة سلم في لبنان. كما أن عائلة عبدلله في الناصرة تركت الناصرة وتسكن اليوم في الخيّام بالقرب من المطلة)[10][109].
                        أما في مصر، فإنَّ وجود مقيمين ايرانيين في مصر منذ القرن التاسع عشر وما سبقه ايضاً كان له دور في ديمومة الفكر الشيعي في مصر التي لم تعرف قط في يوم من الايام غياب للتشيع عن اراضيها بل كان التشيّع موجوداً دائماً منذ الفتح الاسلامي ولكن بدرجات متفاوتة. حيث جاء في التقرير الذي اعده مركز محيط للدراسات السياسية والستراتيجية انه في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي كان في القاهرة والاسكندرية خمسة صحف باللغة الفارسية وهي صحف (حكمت ، ثريا ، برورش ، جهره ، كمال) ، وكانت صحيفة (ثريا) فقط تعود للطائفة البهائية[11][110]. والبقية هي بالتاكيد صحف لشيعة ايرانيين. ولا ننسى ان السيدة تحية كاظم زوجة الرئيس جمال عبد الناصر هي مصرية تنتمي لعائلة من اصول ايرانية ووالدها يعمل تاجر سجاد ايراني.
                        وتأسست دار التقريب في حي الزمالك في القاهرة سنة 1947م والتي تهدف للتقريب الفكري بين السنة والشيعة ، وقد ساهم في تأسيسها عدد من شيوخ الازهر مثل الشيخ محمود شلتوت ووعبد المجيد سليم ومصطفى عبد الرازق وغيرهم وعدد من علماء الشيعة منهم السيد محمد تقي القمي امين عام الدار والسيد عبد الحسين شرف الدين والسيد محمد حسن البروجردي.
                        وللمصريين الشيعة عدة مكتبات منها مكتبة النجاح في القاهرة التي تأسست سنة 1952م ومؤسسها هو مرتضى الرضوي ، ومكتبة الزهراء في حي عابدين في القاهرة ومكتبة حراء. وكذلك تم تاسيس دار الهدف للنشر سنة 1989م ويديرها المستبصر الشيعي صالح الورداني.
                        ورغم أن الشيعة في مصر، منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى نهاية السبعينيات، كانوا ينشطون بحرية نسبية، فإنهم منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، يتعرضون للمحاصرة، وعدم الاعتراف بحقهم في حرية التعبير عن معتقداتهم الدينية، ومنعهم من إقامة تشكيلاتهم الدينية والاجتماعية، وأصبحوا منذ أواسط الثمانينيات يتعرضون للملاحقة الأمنية أيضاً، حسب التقارير. ويبدو أن تصريح الرئيس المصري حسني مبارك، خلال المقابلة التي أجرتها معه قناة "العربية" الفضائية في 8 إبريل/نيسان 2006، الذي اتهم فيه أغلب الشيعة بأن "ولاءهم لإيران وليس لدولهم"، يختزل نظرة النظام إلى شيعة مصر.
                        يذكر صالح الورداني (وهو متشيع، وقبل تشيعه كان ينتمي إلى تنظيم الجهاد، وأحد الذين اعتقلوا عام 1988، فيما سمي وقتها بقضية "تنظيم الخميني") في كتابه "الشيعة في مصر" أن النشاط الشيعي في التاريخ المصري الحديث، برز في منتصف الأربعينيات على يد ما يسمى "جماعة التقريب"، وهي مجموعة من العلماء السنة والشيعة الذين تبنوا الدعوة إلى التقريب بين المذهبين.
                        ومن العلماء السنة الذين دعموا فكرة التقريب، الشيخ محمود شلتوت، والشيخ أحمد الشرباصي. أما العلماء الشيعة، فكان أبرزهم الشيخ محمد تقي القمي الإيراني الجنسية، والشيخ محمد جواد مغنية، إمام القضاء الشرعي الجعفري في لبنان، والشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء من علماء العراق[12][111].
                        وفي العام 1973 أسس العراقي الشيخ طالب الرفاعي[13][112]، وهو من الجيل الاول لحزب الدعوة الاسلامية في العراق ، "جمعية آل البيت"، التي كانت تعد الواجهة الأبرز للتشيع في مصر، ومارست الجمعية نشاطاتها بحرية نسبية، نتيجة للعلاقة القوية التي كانت تربط بين نظام حكم السادات وإيران، إبان حكم الشاه. غير ان نشاط الجمعية توقف بعد إلغاء النظام المصري لها في 2/12/1979م بسبب خوفه من قيام الدولة الشيعية في ايران.
                        وما انتشار الشيعة الامامية في العراق ولبنان وشرق الجزيرة العربية والهند وافغانستان وباكستان ومصر وغيرها من البلاد في القرون الماضية الا دليل على قوة التشيع والفكر الشيعي في الانتشار الطوعي. ولا يستبعد انه بالاضافة الى قوة الفكر الشيعي وقابليته على الانتشار السلمي، فإن إقامة النظام الاسلامي الشيعي في ايران، وإنتصارات حزب الله قد اعطت زخماً في زيادة الانتشار الشيعي بنحو ما. من خلال نشر التعريف بالشيعة والتشيّع ولاسيما مع تطور وسائل التواصل والاعلام وظهور الفضائيات والانترنيت، واحتضان الدول الاوربية وامريكا وكندا واستراليا ودول اخرى للشيعة العراقيين الفارّين من اضطهاد نظام صدام المقبورن حيث مارسوا حريتهم في عباداتهم وشعائرهم ونشر التشيّع في تلك البلدان وتأثر مسلمون من اقطار المغرب العربي ومصر بهم فنقلوا التشيّع الى اوطانهم.

                        [1][100] دولة المغول والتتار بين الانتشار والانكسار / د. علي محمد الصلايبي / دار المعرفة في بيروت / الطبعة الاولى 2009م - ص254.

                        [2][101] الدولة العثمانية المجهولة / د. أحمد آق كوندز، د. سعيد أوزتورك / وقف البحوث العثمانية – ص215.

                        [3][102] مقال بعنوان (دول الخليج في مواجهة التحديات الإيرانية)، بقلم فتحي مجدي، منشور في الموقع الالكتروني مفكرة الاسلام.

                        [4][103] قيل ان اول من اخترع مصطلح (الهلال الشيعي) هو مركز صبان لسياسات الشرق الأوسط التابع لمعهد بروكنگز Brookings Institution في واشنطن وهو مركز اسسه اليهودي من اصل مصري حاييم صبان Haim Saban ، وعنه اخذ الملك عبد الله الثاني المصطلح واطلقه ، غير ان هذا الامر غير صحيح فيما يبدو حيث ان المعهد المذكور نفسه قد اصدر تقريراً سنة 2007م ذكر فيه ان الملك عبد الله الثاني هو الذي اطلق هذا المصطلح في حديثه مع الواشنطن بوست. ولا يبعد التعاون بين المعهد والملك عبد الله الثاني بصورة غير معلنة بطريقة ادى الى تسريب الفكرة له. والله اعلم.

                        [5][104]وقد عاد الملك عبد الله الثاني عن تصريحه عن الهلال الشيعي بعد تسع سنوات ، ففي يونيو / حزيران 2013 قال العاهل الاردني الملك عبد الله الثاني ان تحذيره من تشكيل هلال شيعي في المنطقة لم يكن يقصد به المذهب الشيعي كعقيدة، بل كان تخوفاً من ان تكون هناك "هيمنة سياسية لمحور على أساس مذهبي"، مضيفاً ان السنة والشيعة حقيقة ستستمر إلى يوم الدين.
                        جاء ذلك في حوار مع صحيفة الشرق الاوسط السعودية رداً على سؤال عن المخاوف والتحذيرات التي اطلقها سابقاً عن ما يسمى "الهلال الشيعي" وفيما اذا كان يشعر الآن ان هذه المخاوف تتحقق و"كيفية تفادي المنطقة" الوقوع بهذا "الفخ".
                        واضاف الملك عبد الله "التخوف الذي حذرنا منه في السابق هو أن تكون هناك هيمنة سياسية لمحور على أساس مذهبي، وليس القصد المذهب الشيعي كعقيدة. القضية هي في استغلال الدين والمذهب كوسيلة لتحقيق مآرب سياسية. الإسلام أكبر وأعظم وأسمى من كل ذلك، وأنبل من أن يتخذ وسيلة للوصول للسلطة وبث الفرقة".
                        وتابع قائلاً "لا يمكن لنا السكوت على محاولات العبث بمصير المنطقة وشعوبها عبر استغلال الدين والمذاهب في السياسة واتخاذها وسيلة للفرقة. وهنا لا بد أن أحذر من أن التوسع في إذكاء نار الطائفية في العالمين= =العربي والإسلامي سيكون له أبعاد مدمرة على أجيالنا القادمة وعلى العالم. وأكثر ما نخشاه أن يتوسع الصراع في سوريا، ويتحول إلى فتنة بين السنة والشيعة على مستوى المنطقة".
                        وقال عبد الله الثاني "منّ الله علينا، عبر تاريخنا الإسلامي، وجنبنا الفتنة الطائفية نسبة بالأديان الأخرى. لكننا الآن أمام أمر واقع مفاده أن كلا من السنة والشيعة يظن أنه لا مفر من حرب طائفية عقائدية مهلكة في سوريا. إن تركنا الطرفين على قناعتهما أن ما يحدث في سوريا هو جهاد من حيث المبدأ، فهذا يعني أنه لا نهاية لهذا الصراع والقتال، لأن السنة والشيعة حقيقة ستستمر إلى يوم الدين"، مشيراً الى ان ما يحصل في سوريا "هو ثأر مذهبي طائفي (السنة تنتصر للسنة، والشيعة تنتصر للشيعة)، وهذه مسألة مهمة ينبغي على الكل إدراكها. إذا ما استطعنا أن نوقف الصراع وأن نحقن الدماء في سوريا، وأن نصل إلى حل سياسي انتقالي يشمل الجميع، فيمكن للسنة والشيعة في هذا البلد أن يتصالحوا ويتعايشوا مستقبلا، الأمر الذي يحفظ وحدة سوريا وأرضها وشعبها".
                        ومضى الملك عبد الله قائلاً "ولكوني مسلماً هاشمياً، فإن مسؤوليتي التاريخية تحتم علي أن أعمل بكل طاقتي مع العقلاء في العالمين العربي والإسلامي لمنع حدوث فتنة عمياء، وحث السياسيين وعلماء الدين على عدم التجييش وإثارة الفتنة واستغلال الدين في السياسة. على الجميع أن يتذكر أن ما يجمعنا كمسلمين مؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر أكثر بكثير من المسائل التاريخية التي نختلف عليها، وهذا هو أساس ما سعينا لتوضيحه في الإجماع التاريخي على محاور «رسالة عمان» الأساسية، خصوصا إجماع الأمة على عدم التكفير".

                        [6][105]مقال بعنوان (مرحباً بالشيعة في مصر) بقلم عبد الرحمن بن محمد لطفي، منشور في عدة مواقع في شبكة الانترنيت العالمية.

                        [7][106] العراق / حنا بطاطو / ترجمة عفيف الرزاز / منشوراد فرصاد/ الطبعة الاولى 2005م - ج1 ص 61 الهامش.

                        [8][107] مقال بعنوان (من تاريخ التسنن في العراق) بقلم عبد العزيز بن صالح المحمود، الحخلقة الاولى، منشور في عدة مواقع في شبكة الانترنيت العالمية.

                        [9][108]تقرير عن التشيّع في سوريا منشور في الموقع الالكتروني العصر، بعنوان (زمن الشيعة: حقائق وأرقام عن التشيع في سوريا (2/3) بحث ميداني) بقلم: البروفيسور خالد سنداوي ، ترجمة: د. حمد العيسى، نشر البحث في يونيو 2009 ضمن مشروع «اتجاهات حالية في الفكر الإسلامي» التابع لمؤسسة بحثية أمريكية مرموقة غير حزبية وغير حكومية، ومكرسة للبحوث والدراسات التحليلية المبتكرة التي تعزز الأمن العالمي والازدهار والحرية.

                        [10][109] حوار بعنوان (لقاء مع د. خالد سنداوي حول الشيعة – هناك شيعة في حيفا خاصة وفي البلاد عامة كيف ومتى وصلوا البلاد؟)، منشور في الموقع الالكتروني حيفا نت، بتاريخ 24 / 5 / 2010م.

                        [11][110] التقرير منشور في موقع محيط تحت عنوان (خريطة الشيعة في مصر) بتاريخ 16/5/2012م. وايضاً جاء ذكر الصحف الخمسة في مصر باللغة الفارسية في نهاية القرن التاسع عشر في تقرير منشور في الموقع السلفي (مفكرة الاسلام) في 28/7/2008م تحت عنوان( تحقيق: تاريخ ومخططات الشيعة في مصر).

                        [12][111] من تقرير لشبكة الـ CNN الاعلامية العالمية بعنوان (الشيعة في مصر متهمون رسمياً ومعزولون شعبياً) بتاريخ 8/4/2007م.

                        [13][112] وهو الذي صلى على جثمان شاه ايران المقبور بعد وفاته في مصر وتعرض نتيجة ذلك لانتقادات واسعة من قبل الشيعة.

                        تعليق


                        • #13
                          ضيعت وقتك في كتابة هذا الكتاب
                          وضعيت وقتنا في قراءة هذا الكتاب.
                          .
                          لا حول ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم
                          انت ترقع في نقلك؟؟؟
                          هل الشيخ علي الكوراني على نفس رأيه الذي ذكرته
                          ام اختلف رأيه بشأن إيران؟؟؟؟

                          تعليق


                          • #14
                            هل نبيل الكرخي هو اسم حقيقي لك ام معرف فقط؟؟؟

                            تعليق


                            • #15
                              المشاركة الأصلية بواسطة المعتمد في التاريخ
                              ضيعت وقتك في كتابة هذا الكتاب
                              وضعيت وقتنا في قراءة هذا الكتاب.
                              .
                              لا حول ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم
                              انت ترقع في نقلك؟؟؟
                              هل الشيخ علي الكوراني على نفس رأيه الذي ذكرته
                              ام اختلف رأيه بشأن إيران؟؟؟؟
                              ما شاء الله على النقد العلمي. تحياتي.

                              تعليق

                              المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                              حفظ-تلقائي
                              x

                              رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                              صورة التسجيل تحديث الصورة

                              اقرأ في منتديات يا حسين

                              تقليص

                              لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                              يعمل...
                              X